الاثنين، 18 يونيو 2018

دبكة في البير



في عام 1999 توفي القائد العسكري لشرق رام الله وغرب النهر في ثورة 1936 عبد الفتاح المزرعاوي الملقب بأبي سواد عن اثنين وتسعين عاما، وجرت له جنازة مهيبة رسمية وشعبية، فالفقيد من المحاربين القدامى، وأحد المجاهدين الذين أبلوا بلاء حسنا في تلك الثورة، وقام ببطولات راحت مضرب المثل في المنطقة.
العجيب أن الحاجة جميلة أم عبد الغني من كفرمالك زغردت فرحا عندما بلغها خبر موته، ووزعت حلوى على جيرانها وعلى الذين مروا من أمام دارها ذلك اليوم، وأم عبد الغني فلاحة مكافحة عاشت على الفطرة، وأفنت سنين عمرها راعية لأولادها الستة، لا دخل لها بالسياسة ولا الثوار، فما القصة؟
أيام ثورة 1936 والتي امتدت لثلاث سنوات، وفي شتاء بارد تساقط فيه الثلج والبرد، والشتاء عند الفلاحين ضيق ولو كان فرجا، حدث خلاف عادي في حوش دار شناعة بين الزوج جميل وزوجته زهية، خلاف عائلي لا يخلو منه حوش في القرية، حيث الزوج والزوجة والعائلة على مصطبة واحدة، فكان أن حَرَدت الزوجة وغادرت الحوش تسبقها دموعها إلى دار أبيها أبو أحمد في حوش البابور.
خلاف عادي بين زوجين كان من الممكن أن ينتهي بفنجان قهوة ومسحة لحية من أحد الغانمين من أهل الصلح، ولكن فضية أم الزوجة، ادعت أن أهل الزوج أخذوا ذهب البنت صداق رقبتها وطردوها، وحرّضت زوجها قاسم وابنه أحمد على أنسبائها، ليعدوا لابنتهم حقها المسلوب ، فزَع قاسم وابنه أحمد إلى حوش دار شناعة يطالبون بذهبات الزوجة الحردانة، وقامت طوشة حامية الوطيس شارك فيها الرجال والنساء، وخلال الاشتباك هاجم الزوج أخا زوجته الحردانة وعضه على شفته السفلى فسلخها بين أسنانه، وسال الدم، احتاجت فيما بعد إلى عدة قطب لكي تعود مكانها، وظلت شاهدة على الوقعة التي حدثت بين العائلتين.
تدخل الثوار لوقف النزاع وحل المشكلة، وكان على رأسهم قائد الثورة في المنطقة الشرقية أبو سواد ، ولما أنكر الطرفان الاعتراف بمكان الذهبات ، وبقي سبب المشكلة قائما، أمر أبو سواد بإلقاء القبض على كبار العائلتين والدي الزوج والزوجة، وأعطى أمرا بحجز الرجلين في قعر بئر مهجورة في حريقة عقبة فوق مشمشات دار القاق، وقال لهما لن تخرجا من البئر حتى تعترفا بمكان الذهبات ، وكان الفصل شتاء شديد البرد  ، والثلج يتساقط على القرية ، لذا راح المحتجزان في البئر ينطان طلبا للدفء وكي لا يتجمدا من البرد، وفيهم قال شاعر كفرمالك أحمد أبو ندية :
أبو قاسم وأبو جميل   عملوا الدبكة جوا البير
فضيّـة يا مدهية        يا قبــــــرتي زهيّة
قومي جيبي الذهبات   قتلونا العصابات
ومكث الرجلان في البئر يوما أو يومين ولكن دون جدوى، فهما لا يعرفان شيئا عن الذهبات، هنا قرر أبو سواد اخراج الرجلين من البئر، والتحقيق معهما في مضافة الحمولة، وعندما لم يفلح التهديد والوعيد في كشف سر الذهبات، ضاعف الثوار التنكيل بالرجلين، وأمر أبو سواد بأن تنزع ثيابهما ويربطا ويتركا في البرد الشديد على سطوح المضافة حتى يعترفا بالجرم وتظهر الحقيقة وينتهي النزاع.
هنا أمام إصرار الرجلين على الإنكار، أمر القائد أبو سواد بإحضار من بقي من أفراد عائلة الزوج للضغط عليهما لعله يجد ما يبحث عنه.
ولم يكن أمام الثوار غير الشاب حسن ، فبعد الطوشة الأولى اختفى الزوج جميل بعد قطع شفة أخي زوجته، وهرب كذلك أخوه محمد ، وأخوهما الرابع موسى كان صغيرا، ولم يبق من أهل الزوج  إلا الشاب حسن الأخ الثالث الذي كان في بداية العشرينيات، ولما لم يبق من الإخوة غيره أمر أبو سواد بالقبض عليه لاستجوابه ، وساقوه إلى مضافة الحمولة، في عز البرد والثلج، جردوه من ملابسه وبقي بالسروال، أنكر حسن معرفته بمكان الذهبات، وبدأ تحقيق عنيف مع الشاب حسن، وأمام إنكاره معرفة مكان الذهبات، انهالوا عليه ضربا وهو عار إلا من السروال، وهو مصر أنه لا يعرف، اشتد الضرب، وتناوبوا عليه بأمر القائد بالكرابيج والعصي، حتى عجز الشاب عن الحراك، وتبين أنه لا يستطيع الوقوف على قدميه، وراح يصرخ من شدة الألم ، فقد تبين أن ظهره قد كُسر من شدة الضرب.
فيما بعد سافر به أهله إلى بيت لحم عند أقارب لهم، وقام طبيب بوضع قالب من الجبص لكي يستطيع اسناد ظهره، وقيل إن هذا القالب لم يفك عنه إلا يوم زواجه. وفيما بعد ظهرت في ظهره قروح ظل يعاني منها وكانت سببا في وفاته في مطلع الخمسينات بسبب الإهمال طبي.
وعند\ما بلغ السيل الزبى، وبلعت المعاناة قمتها، تداعت نساء القرية يسترحمن القائد أبو سواد والثوار كي يعفو عن الرجال، ويتوسلن لهم انقاذ المحتجزين من البرد والثلج.  
ولما اشتد التنكيل بهما، اعترفت فضية أم الزوجة أنها قامت بصرف الذهبات لكي تنفقها على بنتها الحردانة، هنا أوقف أبو سواد التحقيق القاسي، وتم الصلح على أن يعوّض أهل الزوج بقطعة أرض في الحبلة مقابل الذاهبات من أملاد دار قاسم.
الحاجة جميلة أم عبد الغني ظلت تحمل في صدرها أسى وحزنا بسبب ما جرى لأخيها الشاب حسن، وترى أن القائد أبو سواد ظلم أخاها، ولم تنس، وبعد ستين عاما على الحادثة كان جرح القهر ما زال ينزف، لذلك خالفت كل الناس الذين حزنوا على وفاة مجاهد بطل، ووزعت حلوى. فالأسى لا ينتسى.  
رحم الله القائد المجاهد أبا سواد، والحاجة المكلومة جميلة وأخاها المظلوم حسن، ولكل جواد كبوة ولكل فارس هفوة.

السبت، 17 مارس 2018


من دفاتر كفرمالك

ذكرى وعبرة
في شهر تموز من عام 1985 كانت الحاجة سارة عيد طه ترقد على سرير الشيخوخة بانتظار الرحلة الأزلية لدار البقاء، كان لسانها رطب بذكر الله وبوصية لا تزال ترددها على أهل الدار:
ـ برضا الله عليكم، احفروا قبري في الجبل.
كانت الوصية مستغربة عند أهل الدار من الأحفاد والأقارب، فلدى دار طه مقبرة خاصة في الكرم، ولا تبعد عن الجبل سوى مئة متر، وفيها دُفن أموات العائلة السابقون. فلما كانوا يتعجبون من قولها، كانت تقول لهم:
ـ وما أدراكم يمكن ربنا يعطيكم وتبنوا جامع في أرض الجبل، ويصير الطالع والنازل يترحم عليَّ ويقرأ لي الفاتحة.
في يوم 25 / 8 / 1985 انتفلت الحاجة سارة من الدنيا الفانية إلى الآخرة الباقية، وبقيت وصيتها خاطرا يتردد في بال من سمعها.
بعد عشرين سنة من وفاتها في 2006 قرر المحسن سليمان أبو وجيه بناء مسجد في القرية ، وراح المعنيون يبحثون عن قطعة أرض مناسبة لبناء المسجد، وقُدمت الكثير من الاقتراحات والعروض، ولم تفلح الجهود، لأسباب واهية، هنا جاء المرحوم عبد المجيد طه ، الذي تصادف ذكرى وفاته هذه الأيام ، وعرض أن يقدم قطعة أرض في الجبل لبناء المسجد، تردد المعنيون وذلك لأن المنطقة بعيدة عن بيوت القرية، وراحوا يبحثون عن مكان أنسب، وأيضا فشلت الجهود مرة أخرى ، فقرر الحاج أبو وجيه الموافقة على عرض الشيخ عبد المجيد، وتم بفضل الله بناء مسجد الإحسان على الجبل بين بيت دار أبو طه وقبر المرحومة سارة .
ليس في الدنيا صُدف عمياء، في الدنيا أقدار يرتبها رب السماء.
رحم الله الحاجة سارة، ورحم الله الشيخ عبد المجيد، وجزى الله خيرا الحاج أبو وجيه.

الاثنين، 12 فبراير 2018


وفيات هذا الأسبوع من أهالي كفرمالك لهم الرحمة

10 ـ 16 شباط

الرقم
الاسم
التاريخ
مكان الدفن
1.      
ياسين شقير
10/2/2004
كفرمالك
2.      
أبو مصطفى الجريرية
12/2/2005
كفرمالك
3.      
عوني النيص
15/2/2005
كفرمالك
4.      
أم محمد زينب
12/4/2006
كفرمالك
5.      
زامل علي سعيفان
10/2/2007
كفرمالك
6.      
أم مراد دية
11/2/2008
كفرمالك
7.      
محمد رستم أبو صدقي
15/2/2008
كفرمالك
8.      
أم ناجح أبو زهدي
16/2/2014
كفرمالك
9.      
أم سلطان بركات
17/2/2009
كفرمالك
10.  
أم عبد الحميد ليلى
16/2/2011
كفرمالك
11.  
وجيه الدباك
14/2/2004
الولايات المتحدة

الأربعاء، 25 يناير 2017

العاشق المغامر .. صبحي زعيتر


من دفاتر كفرمالك

العاشق المغامر .. صبحي زعيتر



1 : قبل البداية

هل سمعتم عن رجل من كفرمالك صُمد والده على صخرة في عين سامية وقضى شهر العسل في مغارة  ؟

وهل مرت بكم قصة زواجه حيث دفعت العروس مهره وكان المهر بارودة  انجليزية ؟

وهل سمعتم أن ذات الرجل دوخ الكابتن فورت زمن الانتداب الانجليزي ؟

وما رأيكم أن هذا الرجل عاش أكثر قصص العشق في كفرمالك تحديا وجرأة ثم تزوج في الغربة من أجنبية غريبة وهجر زوجته ونسي حبه العظيم ؟

هو مغامر كفرمالك وعاشقها وقناصها وبهلوانها ..

تابعوا سيرة العاشق المغامر .. التي أخرجها لكم في هذه الحلقات من دفاتر كفرمالك العتيقة ..



2 : ( الصمدة ) على صخرة وشهر العسل في مغارة..



في عام 1915 أو قريب منها ، جاء الجنود الأتراك إلى قرية كفرمالك لتجنيد شباب للخدمة الإلزامية في حروب الدولة العلية في مشارق الأرض ومغاربها ،  كان عيسى شابا في سن ملائمة للتجنيد ، ولما علمت أمه بهدف الجنود ، لملمت ما تيسر وأخذت ابنها الشاب معها، وهربت به  إلى عين سامية لتخفيه عن عيون الجنود ، وتنقذه من رحلة مجهولة العواقب .

في عين سامية تجمع حول الأم وابنها الشاب الأهالي ، وقال لها بعض أصحاب الخبرة أن الطريقة الوحيدة لكي تحتفظ بابنها هي أن تزوجه ، لأن الأتراك لا يأخذون الشاب المتزوج حديثا ، بحثت الأم عن بنت تزوجها من ولدها على وجه السرعة ، ووجدت ضالتها في صبية هي ابنة الداية خديجة العنتري ، والداية خديجة أرملة قتل زوجها في طوشة قامت بين حمائل القرية عند عقد العلالي ، وهي أمرأة تصنف في القرية من أخوات الرجال حكيمة وقوية ، وبذات الوقت فإن الشاب عيسى مطمع للنسب وعائلته مناسبة للمصاهرة ، وفعلا تمت الجاهة والخطوبة على وجه السرعة ، ولكسب الوقت في عقد الزواج قبل وصول الجنود ، أقيم عرس للشاب عيسى في عين سامية ، وتمت ( الصمدة ) على صخرة عند البيادر ، جلس عليها العريس والعروس ، وحضر من تواجد من أهالي كفرمالك ، وأقاموا عرسا مستعجلا كيفما تيسر ، ونجا عيسى من السفر .
من هذا العرس الذي تمت فيه الصمدة على صخرة ، وشهر العسل في مغارة ، ولد الطفل صبحي ، وتعلم المشي خلال الحرب العالمية الأولى ، وشب تحت حكم الانتداب البريطاني ، وكانت له مواقف جمعت قوة البدن وشجاعة القلب وفكاهة الروح
  ، تلك المواقف العجيبة الغريبة التي ما زال أهالي كفرمالك يرونها ، منها ما يصدقه العقل ومنها ما أغرب من الخيال ..

يتبع ..

2 : الصبي الذي لا يقهر ..

افتتحت مدرسة كفرمالك الأميرية عام 1928 ، ولأول مرة سيذهب الأولاد إلى شيء يسمى مدرسة ، ولم يكن للمدرسة بناية مستقلة ، لذلك استأجر المخاتير غرفتين اتخذوهما مدرسة ، وكانت مكونة من أربعة صفوف : التمهيدي والأول والثاني والثالث لا غير ، بلغ عدد طلابها عام 1933 ستون طالبا .

التحق صبحي بالمدرسة منذ تأسيسها وكان وقتها قد بلغ من العمر ثمانية سنوات ونصف حسب السجلات الباقية من ذلك العهد ، وحسب سجلات الحضور والغياب كان هو وسعيد عادي من الطلاب القلائل الذين لا غياب عندهم تقريبا خلال السنوات الأربع ، وكان سعيد رمزا للطلاب المتفوقين دراسيا وصبحي بطل جميع أنواع الألعاب .

نشأ صبحي رياضيا قوي البنية لا يجرؤ أحد من أبناء جيله على مصارعته ، ونشأ جريئا لا يعرف الخوف والتردد إلى قلبه طريقا ، وتخرج من المدرسة وانتهت حياته الدراسية بعد الصف الثالث ، وهذا ما حدث مع الطالب سعيد عادي أيضا ، وقتها عرض أحد المعلمين أن يدرس سعيد على نفقته بحيث يقبل الأب بإعطاء المعلم نصف راتبه عندما يتخرج ، ولكن والده فضل أن يرعى الطالب المتفوق سخول العائلة على اكمال دراسته . 

الفتى صبحي واصل تميزه بقوته البدنية مضرب المثل ، ثم صار الكبار يكلفونه برعاية خيول ضيوف القرية في المضافة لكي يسقي الخيل ، وكان هو يستغل الفرصة لكي يركب هذه الخيول ، حتى صار الفارس الأول في القرية .

يومها كانت الفروسية والرجولة تعني ركوب الخيل وإتقان التصويب على البندقية ، وصار يرافق الثوار الذين يلجأون للقرية بعد تنفيذ عمليات فدائية في عيون الحرامية ضد الإنجليز ، ويساعدهم في الهروب والتخفي ،  

وتعلم استخدام البواريد ، وصار حلمه أن يحصل على بارودة خاصة به ، والباردة ثمنها أربعة جنيهات فلسطينية ، والجنيه يساوي ثلاثة عثمليات ، وذلك مبلغ كبير يوم كانت يومية العامل خمسة قروش ، ذلك الحلم سوف يحققه بطريقة عجيبة ..

3 :  اللوز المسروق ومروءة الحاج عبد الجليل

عاش صبحي مع أعمامه في بيت العائلة في حارة العامود وسط البلد مكان ساحة الجامع اليوم ، وكان جاره القريب الحاج عبد الجليل أبو عايش وعائلته ، وكان الحاج عبد الجليل صاحب كرم لوز ، وكان قد جد لوز تعميرة واد نصير ، وفرده على سطح بيته ليجف ، إحدى نساء الحارة أغرت الفتى صبحي بأن يسرق لها كيس من اللوز مقابل أن تبيعه وتعطي صبحي نصيبه ، وأطاع الفتى وسوسة المرأة .

جاء صبحي بعد أيام وهو يلبس دماية روزا لامعة وكندرة جديدة ، عمه محمـد لما رآه سحبه داخل البيت ، وسأله عن لباسه الجديد ومن أين أتى بالمال ، وتحت التهديد والوعيد ، أقر صبحي بمصدر المال ، هنا قام عمه محمـد بتجريد الولد المغرر به  من الدماية والكندرة وقطعهما بالشبرية ، وعاقب صبحي بأن ربطه وحبسه على المزبل في قاع البيت .

ذهب عمه محمـد لجاره الحاج عبد الجليل ، وأخبره بقصة السرقة ، والعقاب الذي أنزله بالولد لكي يعلمه الأدب واحترام حقوق الجار ، كان رد الحاج عبد الجليل عجيبا ، فقال لجاره محمـد :

ـ حرام عليك يا  جار، الولد كان مبسوط بالكسوة الجديدة ، وعشان حفنة لوز كسرت خاطره !! والله العظيم لتكون كسوته على حسابي .

وفعلا ذهب الحاج عبد الجليل وفك رباط الولد ، وطيب خاطره ، واشترى له دماية وكندرة جديدة .

وكان صبحي يحدث بهذه القصة لكل من يعرفه ، ويترحم على جاره الحاج عبد الجليل صاحب المروءة الذي خلصه من ورطة أوقعته حبال إبليس ، وفي بلدنا يقولون : " حبال الشيطان من غزل النسوان " .

وهن ذات النسوان اللواتي سيرسلن الفتى صبحي في فزعة لعيون الحرامية بعد حين ..



4 : كيف صار الفتى صبحي من أهل الفزعة ..

جاء مرسال من الثوار إلى مضافة القرية يطلب فزعة لوقعة في واد البلاط ، وكان على أهل المروة والنخوة أن يلبوا صريخ المنادي ، والمقصود بالفزعة أن ترسل كل بلد بعض الرجال يساندون الثوار من بعيد ، ويحمونهم ويغطون عليهم عند الانسحاب ويسعفون الجرى ، وأهل كفرمالك كانوا في ثورة 36 من أهل الفزعة ، وكانت الفزعة المالكية تسند الظهر وتجبر الكسر ، أي مفيدة في الهجوم وفي الانسحاب ..

وكان للفزعة نظام وترتيب بين العائلات ، فعلى كل عائلة في القرية  أن ترسل بواردي واحد على الأقل بالتناوب بين أفخاذ العائلة ، وكان الدور في دار معدي عند دار عيسى ، فقال الفتى صبحي :

ـ يا عمي أنا بدي أطلع هذه المرة .

فقال عمه : اقعد يا ولد ، بدك عمك يقعد مع النسوان في الطوابين وانت تطلع مع الرجال .

وجاء الترك ( الشاحنة ) وركب البواردية أهل الفزعة ، وانطلقوا في الطريق الترابية صاعدين نحو العاصور ، ولما وصلت الشاحنة قوربة (منحنى) دار أبو خضر بطنجت ( تعثرت ) ، فنزل الرجال يدفعون السيارة ، فكانت المفاجأة أن وجدوا الفتى صبحي متعلقا تحت باب الشاحنة الخلفي ، جن جنون أبو معدي ، وقبض بتلابيب الفتى ، وقال له :

ـ ولك شو بتساوي هان يا قرد العزا .

أجاب صبحي : قلت أجيء معكم يمكن تحتاجوني .

فقال العم :

ـ ولك يا تيس ما في رجال في الدار غيري وغيرك ، واحنا رايحين على حرب وضرب رصاص ،  إذا أنا رحت بظل واحد يدير باله على الدار ، يعني بدك نروح الاثنين .. انقلع .. ارجع

ورجع الفتى صبحي ، ولكنه شارك بعد ذلك في كل فزعات أهل كفرمالك ، ومن أهمها فزعة القسطل بعد عشر سنين يوم استشهاد القائد عبد القادر الحسيني .. 



5 : الشاب الذي تزوج  بارودة

وكبر صبحي وصار الشاب القوي المغامر الشجاع ، فصار مطمعا لبنات البلد ، ذات يوم وصله خبر أن قريبته الأرملة محمـدية العدوي أسرت لبعض صويحباتها : إذا تزوجني صبحي سأشتري له بارودة ، وحقق الشاب صبحي أمنية الأرملة ، وحقق معها أمنيتين إضافيتين : الأولى أنه سيرث قريبته التي لا وارث لها ، والثانية أن قريبته تسكن في حوش محبوبته التي يسعى لرؤيتها والوصال معها بأي ثمن ، فيكون بذلك قد اصطاد ثلاثة عصافير بحجر واحد . 

ليلة الدخلة وبعد السهرة والحناء والزفة وسف المناسف على حساب العروس ، تأخرت امرأة تدعى نجمة عند العروس ، وجاء صبحي ، وتأخرت الست نجمة بالسهرة ، ثم استأذنت لتعود إلى بيتها ، فقال صبحي :

ـ مش عيب تروحي بالليل لحالك ، لازم أوصلك لباب داركم ، وترك صبحي عروسه بشنبرها وثياب عرسها ، وشكل البارودة على كتفه ، وذهب يوصل نجمة ، وانقضى الليل ولم يعد ،  في الصباح جاءت جارة تهنئ محمـدية العروس بالصباحية ، فقالت لها العروس :

ـ روحي هني نجمة ، أنا يا دار ما دخلك شر .

ومنذ تلك الليلة انشغل صبحي عن عروسه بالبارودة حتى صار من قناصي كفرمالك المعدودين ، وبقيت صاحبة البارودة زوجة بالاسم ، طلقها يوم تزوج محبوبته الأثيرة العفيفة ، وعندما سافر إلى البرازيل هجر محبوبته الأثيرة وآثر عليها الطير الغريب .. فكان أول من سن فشل قصص الغرام في كفرمالك ، فأغلب الزيجات في بلدنا التي كانت نتيجة حب جارف جرفتها الأيام بالطلاق أو بتعدد الزيجات ، فصدق عليهم قول نزار قباني :

أتراها تحبني ميسونُ *** أم توهمتَ والنساء ظنونُ



6 : لويح الدبكة الشاطر ..  

كان صبحي فاكهة الأعراس والسهرات ، فهو صاحب الفقرة المسرحية المنتظرة من الساهرين ، كان يقدم فقرة تمثيلية ساخرة حيث يلبس لحافا ، ويصنع لنفسه بطنا كبيرة ، ويقلد بعض مخاتير البلد في مشاهد يفرط عليها الناي من الضحك .

بالإضافة لموهبته في التشخيص ، كان صبحي دبيكا نشطا يقود صف الدبكة بحركات رشيقة بهلوانية ، وذات سهرة كان يدبك على حيطان  علية البعيرات ، وتجتمع النساء في حوش دار المهرور ، وأراد أن يري النساء والرجال مشهدا طريفا ، وأراد قبل ذلك أن يلفت نظر محبوبته عفيفة التي تشارك في السهرة ، فصاح بصف الدبكة موجها خطواتهم : ثلاثة وانزل  . فدق برجله ثلاث دقات ثم قفز عن ظهر الحيطان نازلا بين النساء الساهرات في الحوش . والمسافة كبيرة ، ولكن الشاب قفزها دون أن يحدث له أي ضرر ، وأتم الدبكة بين النساء ، وهو ينظر إلى محبوبته ، وكأنه يقول لها .. من أجل عينيك لرمي حالي من العالي .

وأول مواجهة للفتى المغامر صبحي  مع العساكر الإنجليز كانت في أواسط الثلاثينيات ، حيث حضر بعض العساكر الإنجليز سهرة في الحارة عند دار غنايم ، ووقفوا لمشاهدة حلقة الدبكة التي كان يقودها صبحي ، يضرب الأرض بخفة الطائر وبحركة سريعة قام صبحي بخطف برنيطة أحد الجنود ، وانطلق كالسهم نازلا نحو لوز واد العَبّاد ، حاول الجنود اللحاق به دون جدوى ، فقد عرف عن صبحي سرعته الفائقة في الجري . هذه المزحة الثقيلة جعلت الكابتن فورد الضابط الإنجليزي في المنطقة يتربص بصبحي الدوائر.

ذات مرة صادف الكابتن فورد  الشاب صبحي في الزقاق قريبا من بيته ، كان صبحي قد عنكر عقاله ، وأمام بعض نساء الحي ، نزغ الكابتن عقال صبحي ورماه أرضا ، أُحرج الشاب صبحي وكتمها في نفسه ، وذات يوم جاء الكابتن فورد يرافقه أحد أعيان المنطقة  من دار الضامن  لزيارة للقرية ، وجلسوا في علية البعيرات ، هنا تعمد صبحي أن يعنكر عقاله ، ويتمتختر أمام الكابتن ، طبعا فورد لا يستطيع أن يفعل شيئا بسبب وجدود الوجهاء ، فقال لمرافقه :

ـ شوف العربي ، يتباهى بعقاله ؟

قال المرافق : لكي تعرف أن شهامة العرب في رؤوسهم وشهامة الانجليز في ....  ( قفاهم ) .



7 : مرجوحة التعذيب .. ومقص صبحي العجيب ..!!

ومرت سنون ، وقامت الثورة والإضراب الكبير ، وتعرضت كفرمالك لعدة تطويقات بحثا عن الثوار والأسلحة،  ويذكر أهالي كفرمالك من بينها التطويقة الكبيرة عام 1938 ، كانت هذه الحملة من أشد الحملات رعبا وتنكيلا بالسكان ، وسماها أهل كفرمالك الكبيرة لأن الإنجليز جمعوا رجال كفرمالك في الحارة الفوقا عند دار عياد اليوم ، وضربوا حول المعتقلين سياجا ، ومنعوا عنهم الزاد والماء حاسري الرؤوس في الحر الشديد لأكثر من ثلاثة أيام ، وخلال تلك التطويقة استشهد أحمد عبد الحي عندما حاول أن ينقذ نفسه من الموت عطشا ، وادعى أن لديه بندقية خبأها عند نبع عين سامية ، وفعلا أخذه الجنود للعين ، وعندما شاهد الماء هرب محاولا الوصول للماء ليشري ، فأطلقوا عليه النار ويقط شهيدا .

في هذه التطويقة كان صبحي عائدا إلى البلد من واد سموم يقود حميرا محملة بالكرسنة ، ألقى الجنود الإنجليز عليه القبض أمام بيته ، وأخذوه إلى الطوق لينضم لباقي المحتجزين  .

 أقام الضباط الإنجليز غرفة تحقيق وتعذيب في علية دار المدني ، وجاء دور صبحي ، ربطوا يديه في حبل علقوه  بكِلّاب في سقف الغرفة ، ورفعوه عن الأرض ، وصاروا يضربونه بالعصي والكرابيج وهو يتأرجح مشبوحا في الهواء ، زادوا عليه الضرب ، ولما فاذ الحر على المسطاح  ما كان من صبحي  إلا أن اندفع بجسمه المعلق ، وأطبق بكلتا رجليه على رقبة أحد الضباط ، وراح يخنقه بشدة ، ولما فشل الجنود في تخليص الضابط  من مقص صبحي القوي قاموا بقطع الحبل ، فسقط  صبحي على الأرض ، وانهالوا عليه ضربا مبرحا حتى غاب عن الوعي .

 عندما أفاق صبحي من غيبوبته وجد نفسه  محبوسا في بئر قريب من المقاطعة في رام الله ، وبدون أسنان .. ولكن صبحي قرر الثأر لأسنانه ولو طال الزمان .



8 : تفجير فندق الملك داود .. وبطولة صبحي ..  

في بداية الأربعينيات انضم صبحي إلى الحرس الإضافي الانجليزي ضمن حملة التجنيد التي قادها فايز بك الإدريسي لاستيعاب الثوار ، وكانت خطة الإدريسي الخبيثة تقوم على مرحلتين : الأولى هي العفو عن الثوار أصحاب الماضي المشاغب ، والثانية توفير وظيفة للتائيين بإلحاقهم بدورة تدريب عسكرية في بيت لحم ، ويتم بعدها تعيين الناجحين في سلك البوليس الإضافي ، مقابل راتب شهري قدره خمسة جنيهات فلسطينية ،  الجنيه الواحد في ذلك الوقت كان يعادل ثلاث عثمليات ، أي كان المبلغ خياليا في تلك الأيام .

كان صبحي من فرقة الحراسة التي تحرس فندق الملك داود في القدس ، الذي استخدم الإنجليز الجناح الجنوبي منه مقرا للإدارة العسكرية العامة البريطانية ، ونفذت عصابة الأرغون الصهيونية عملية تفجير ضخمة في الفندق بزعامة مناحيم بيغن عام 1946 ، قتل خلال تلك العملية 91 شخصا وجرح حوالي 45 آخرين .

 كان صبحي في دورية الحراسة على سطح الفندق ، وبعد الانفجار دارت اشتباكات حول الفندق ، هنا استغل صبحي موقعه ، وفي غمرة الفوضى التي قامت راح يصطاد من وقعت عليه عينه من الإنجليز واليهود المتواجدين في المكان ، وأسقط قنبلة على تجمع منهم تحت الفندق ،  فأوقع عدد لا بأس به قتلى وجرحى ، وبقيت تلك العملية البطولية التي قام بها صبحي سرا دفينا لم يكشف عنه إلا بعد وفاة صبحي ، وظلت من مآثر الرجل التي لا تنسى ..



9 : كيف ودع صبحي  الكابتن فورت ..

ذات يوم حضر الكابتن فورت لمضافة القرية ، طويل وأشقر حاقد ملعون والدين ،  ومعه فريق من الشرطة الخيالة ، مصطبة المضافة كانت محفرة من كثرة الحركة عليها ، وراح البعض يحضر عليق الخيل ، وانشغل آخرون بتجهيز طعام الضيوف ، ودارت دلة القهوة على الحاضرين .

 كان ذلك في عام 1946 أي قبل رحيل القوات البريطانية عن المنطقة بأقل من عامين ، وأثناء تقديم القهوة للضيوف ، تفحص الكابتن فورت الموجودين ، وهو جالس على فراشه تحت الشبابيك الغربية ، وفارد رجليه في وجوه الآخرين، فوجده معنكر عفاله فخرا وتباهيا ، وكان من أنشط شباب القرية سرعة وخفة ، وكان في كثير من الحالات يباري الخيل الجامحة في الميدان ركضا على الأقدام ، ولو كان الضابط يعرف ما سيجري لما فعل ما فعل ، حيث قال للشاب : إنت .. إنت تعال هون ، وعند حضوره أمام الضابط أشر له على رجليه بأن يخلع نعليه بيديه ، وامتقع وجه الشاب من ذلك الموقف المهين، وراح يلتفت يمنة ويسرة حيث كان سريع البديهة ، وبسرعة فكر بما سيفعل ، وألح عليه الضابط بأن يفعل ما طلب منه ، وما كان منه إلا أن أمسك برجل الضابط بكل قوة ، وشحطه على الأرض من غرب المضافة إلى شرقها ، وأمام صراخ الكابتن ومسياته وتهديداته ، أفلت صبحي يسطار الضابط بعدما شحطه على الأرض ، وقفز من الشبابيك الشرقية ، على ارتفاع طابقين ، وهرب بخفة الخيل وسرعة البرق، ولم يكن بوسع الفرسان أن يفعلوا مثل ما فعل، بل خرجوا من باب المضافة إلى الحيطان المجاورة حتى وصلوا إلى خيولهم ، وحاولوا اللحاق به ولكنهم لم يفلحوا .أما بالنسبة للضابط المتعجرف والذي لم يتوقع مثل تلك الفعلة حيث تهشم ظهره من حفر الأرضية وقوة السحب ، ولم ينتظر الجنود غداءهم بل غادروا على وجه السرعة لعلاج الجريح ، وقيل لي بأن الضابط مكث قرابة الأسبوع لا يغادر المركز حتى تعافى ، وحاول فيما بعد العثور على الفاعل ولكنهم انسحبوا من فلسطين قبل أن يقبضوا عليه .. .  

10: الاغتراب .. قنطار خشب على درهم حلاوة

في بداية الخمسينيات سافر صبحي إلى جزيرة المارتنيك ،  وهي جزيرة صغيرة في البحر الكاريبي تتبع لفرنسا ، وبدأت هجرة بعض أهالي كفرمالك إليها في بداية الثلاثينات ، ومن طرائف ملاحظات المعلمين على دفتر الحضور والغياب في مدرسة كفرمالك الأميرية عام 1933 عن طالبين في الصف الثالث يحملان اسم محمود ، الأول محمود عمرة ترك المدرسة لكي يلتحق بوالده في فرنسا ، وتحته مباشرة محمود صالح ترك المدرسة لكي يلتحق بوالده في الحراث .

سافر صبحي لكي يلتحق بوالده الذي سبقه بالاغتراب ، ولكن شخصية صبحي المغامرة لم تتفق مع شخصية والده وعمه المحافظة ، فأراد أن يغير تجارتهم وطريقة عملهم ، واكتشف أن الدبكة عنوان الرجولة اسمها في المارتنيك الرقص ، والرقص عندهم غير الدبكة عندنا ، فهو عندنا رمز الرجولة جماعي مع الرجال ، وعندهم رمز الفحولة زوجي مع واحدة من النساء ، فلم يطل وفاق الأب المحافظ والابن المغامر ، فقام الوالد بسحب كفالته لابنه الذي لا يحمل الجنسية الفرنسية ، واضطر صبحي للسفر عند أقارب له في البرازيل .

في عام 1964 عنكر صبحي قبعته في المهجر عندما جاءته أخبار سارة بأن ولده البكر ماهر حصل على المرتبة الأولى في التوجيهي على مستوى المملكة ، ولكن غصة جاءته من الحكومة الأردنية عندما كافأت ابنه ببعثة لدراسة الزراعة ، هنا قرر صبحي أن يرسل ابنه المتفوق لدراسة الطب في جامعة القاهرة على نفقته الشخصية .

وبعد سنة من حرب 1967 سافرت عائلة صبحي لتنضم له في البرازيل ، واكتشفت زوجته أن زوجها العاشق قد وقع في قفص طيور غريبة ، فهجر قفصها الذهبي ، وعاش مع الطير الغريب ، مثله في ذلك مثل أغلب المهاجرين من أهل فلسطين . 



11 : من طرائف صبحي في البرازيل ..



أقام صبحي في البرازيل في مدينة كورومبا في جنوب البرازيل على حدود الأرغواي ، وعمل في تجارة الملابس ، وكان من عادة تجار تلك المدينة أن يسافروا بالقطار إلى سان باولو عاصمة البرازيل التجارية لشراء البضائع .

ذات مرة سافر صبحي إلى سان باولو للتبضع ، وبعد أن أتم مشترياته استقل القطار عائدا إلى مدينته ، توقف القطار عند إحدى المحطات للاستراحة ، حيث يقضي الركاب بعض حاجاتهم ويتناولون وجبة خفيفة ، هناك تعرف صبحي العاشق المغامر على فتاتين برازيليتين تواجدتا في المكان ، كان تعارفا عابرا من باب الشقاوة التي اشتهر بها صبحي ، ثم أطلق القطار صافرته وركب صبحي مواصلا رحلته .

أخرج صبحي يده من الشباك يلوح بها مودعا الصبيتين ، وحدث أن سقطت ساعته من يده ، فما كان من صبحي إلا أن قفز من شباك القطار المنطلق إلى الأرض ، وقع على مشهد من الصبيتين دون أن يتعثر أو يقع ، اتجه حيث تقف الصبيتين وقال :

ـ أهذا يرضيكما .. كدت أموت كي أقول لكما مع السلامة ، والقطار تركني؟  

أدهش الموقف الصبيتين ، فقالت إحداهما :

ـ والدي لديه فازندا ( مزرعة ) قريبة ، إذا كنت تجيد ركوب الخيل ، اركب هذا الحصان واتبعنا نعرفك على والدي ويحل لك المشكلة .  

وانطلق صبحي على صهوة الحصان وراء الصبيتين اللتين ركبتا على حصان واحد ، ثم انطلق كالريح يسابق صاحبتيه ، وصل إلى المزرعة ، وقصت الصبيتان على والديهما القصة ، أعجب الأب بجرأة صبحي ، وبعد تقديم واجب الضيافة قال له :

ـ اسمع أنا عندي طائرة تيكو تيكو .. سأطلب من الطيار أن يوصلك لسان باولو ومن هناك تركب القطار وتعود إلى بلدك .

وركب صبحي الطائرة ذات المحرك الواحد لأول مرة في حياته ، وترك تلك المغامرة الشقية قصة شيقة يرددها أهل كفرمالك في المهجر من باب عجائب وطرائف صبحي زعيتر ..





12 : صبحي .. يتطوع لعملية فدائية



في صيف عام 1968 وبعد معركة الكرامة بشهور ، قام صبحي بزيارة سرية مفاجئة إلى الأردن ، لم يخبر أهله في البرازيل ولا أصدقائه عن سفره ،  ولم يره أحد من أهالي كفرمالك الذين كانت تغص بهم العاصمة الأردنية ، وكان غايته واضحة محددة ، قصد مكتب المنظمة ،  وراح يبحث عن صديق قديم من كفرمالك هو مصطفى حمد أحد قادة حركة فتح في الأردن ، كان مصطفى قد تزوج حديثا ، وانتقل من العقبة للإقامة في عمان ، في ذلك الوقت كان مصطفى يعمل في مكتب أبي عمار في العاصمة ، توجه صبحي للمكتب وسأل عن مصطفى حمد ،  وقيل له ليس عندنا أحد اسمه مصطفى ، هناك شخص واحد من كفرمالك اسمه ربحي موسى ،  طلب صبحي مقابلته ، فأخذوه إلى مكتب يجلس به مصطفى حمد ، تعانق الرجلان بحرارة ، وأصر مصطفى حمد الذي يحمل اسما جديدا على دعوة صبحي للغداء .

قال صبحي : اسمع يا قرابة ، أنا ما جيت من البرازيل لعمان للعزايم والطبايخ .. أنا جيت أطوع في الثورة عشان أدخل عملية فدائية ..

قال مصطفى : يا أبو ماهر .. هذه الشغلة بدها شباب .  

قال صبحي : وأنا شيخ الشباب .. أم نسيت أني أحسن قناص طلع من كفرمالك

وأمام إصرار صبحي وحماسته ، اصطحب مصطفى بلدياته إلى قاعدة للفدائيين في الأغوار ، وأراد مصطفى أن يثني صبحي عن نيته ، فعرضه لاختبار صعب :

ـ اسمع يا صبحي إذا نجحت في هذا الاختبار ، يمكن نسمح لك المشاركة في عملية .

وطلب مصطفى من المجموعة أن تصعد جبلا في المنطقة ، ومعهم صبحي ، وبدأ السباق ، وانطلق الشباب نحو قمة الجبل ، وكانت المفاجأة أن صبحي سبقهم جميعا إلى قمة الجبل .

عاد صبحي فرحا بأنه ما زال يحتفظ بقوته ولياقته ، أمسك بيد مصطفى وقال له :

ـ اللي أوله شرط آخره رضا ..

وعاد صيحي بصحبة مصطفى إلى عمان ،  وقضى فيها بضعة أيام ، ومصطفى يعده خيرا ، ولكن الأمر يحتاج إلى ترتيب ، ولما طال انتظار صبحي ، فاتحه مصطفى وصارحه :

ـ اسمع يا أبو ماهر ، كل وقت له أهله ، واحنا مش ملحقين نسجل متطوعين بعد معركة الكرامة ، كلهم شباب من جيل ابنك ماهر ، الكبار مثلك دورهم في الدعم والتخطيط ، شو رأيك لو أرسلنا ابنك الدكتور ماهر مكانك.

أجاب صبحي : ماهر ما زال يدرس وبعد سنتين يتخرج ..

قال مصطفى : ونحن بحاجة لدكاترة يسعفوا الجرحى .

وعاد صبحي إلى البرازيل ليكمل الانفاق على ابنه الذي يدرس الطب في القاهرة .. ولكنه لم ينس الوعد



 12 : على ماذا حلف صبحي بالطلاق ... ؟



ومضت سنتان ، وتخرج الطالب ماهر صبحي الحائز على المرتبة الأولى في الثانوية العامة على مستوى المملكة ، وحصل على المرتبة الأولى في جامعة القصر العيني في القاهرة ، وأعلن عن موعد حفلة التخريج ، لم ينس صبحي وعده لصديقه مصطفى ، فأرسل إليه يدعوه للمشاركة في حفل تخريج ابنه ماهر من الجامعة ، والتقى الاثنان في القاهرة ، وجلسا مجاورين في قاعة الاحتفال ، فرحا بالمرتبة التي حصل عليها ماهر ، واحتفلا بها بكل نشوة وفخر ، ثم نزل ماهر لكي يسلم على والده وصديقه ، فما كان من صبحي إلا أن أعلن صارما :

ـ اسمع يا دكتور ، انتظرت هذا اليوم طوال سنتين ، الآن عليك أن تخدم وطنك ، وتلتحق بقواعد الثورة في لبنان .

قال ماهر : يابا ، أنا لازم أسافر وأتخصص ..

فقال صبحي غاضبا : عليّ الطلاق من إمك إلا تروح وتنظم للثورة .

وهذا ما كان ، سافر ماهر إلى لبنان والتحق بالثورة طبيبا مسعفا ، كان خلال عمله يتنقل بين قواعد الفدائيين في الدامور والجنوب ، وعرف هناك على نطاق واسع ، وقدم خدمات جليلة للمقاتلين .

في 10 نيسان من عام 1973 وبينما كان الدكتور ماهر يخدم في مستشفى القدس جاءت سيارة إسعاف تابعة للهلال الأحمر الفلسطيني ، وكانت تحمل جثة الشهيد كمال عدوان الذي قتل في عملية فردان مع رفيقيه كمال ناصر وأبو يوسف النجار .

كانت القوة الإسرائيلية المهاجمة قد بالغت في إطلاق النار على وجه كمال عدوان بصورة مريعة ، فغابت معالم الوجه ، لما رأى الدكتور ماهر منظر وجه الشهيد أصيب بحالة من الخوف ، فإذا كان اليهود قادرين على الوصول لهؤلاء القادة ، فهم قادرون على الوصول إليه وإلى غيره .

وفي لحظة ضعف قرر الدكتور ماهر مغادرة لبنان وقواعد المقاومة ، وسافر إلى الولايات المتحدة ، وتخصص في جراحة الأوعية الدموية ، وأصبح فيما بعد من أشهر عشرين طبيب في تخصص جراحة الأوعية الدموية على مستوى العالم .



14 : نهاية العاشق المغامر ..  



في صيف عام 1992 عاد صبحي إلى مسقط رأسه في كفرمالك ، وعادت معه زوجته وأولاده ، واجتمع شمل العائلة بعد فراق طويل ، ورحلة عمر مليئة بالانجازات والاحباطات ، ومسيرة الحياة كالدائرة تبدأ حيث تنتهي ، وبين البداية والنهاية مغامرات وتجارب ، أفراح وأحزان ، فراق ولقاء على محيط الدائرة .

كثير ممن عرفوا صبحي في الغربة كان يرددون أمنية صبحي الغريبة :

ـ يا رب لا تميتني إلا في بلدي وأنا أدبك ..

وحدث أن جاء صبحي للمشاركة في سهرة قريب له من العائلة هو عبد الله الكحلة ، وكانت السهرة أمام بيت العريس في الحارة الفوقا ، سهرة تقليدية بدون مغني ولا دي جي ، وبدأت شبابة أبو سفيان  تستحث الشباب للاصطفاف في حلقة الدبكة ..

أول ما نبدي بسورة تبارك *** عرسك عبدالله يا ريتو مبارك  

 ودارت حلقة الدبكة ، وقام أبو الصادق وأمسك بيد صديقه القديم ، ودعاه للانضمام للدبكة ، لبى صبحي الدعوة دون اعتراض وانضم للشباب ، دارت الحلقة دورة والثانية ، ثم سكتت الشبابة ، وساد في المكان هرج ، وتجمع الناس حول صبحي الذي سقط على الأرض ، أسرع ابنه الدكتور ماهر يتفحص والده الملقى بين الجمع ، وهمس بإذن أخيه الدكتور عيسى بالانجليزية :

ـ أبوك أعطاك عمره ..

وحُمل صبحي إلى سيارة أسرعت للمستشفى ، وجاءت سكرة الموت بالحق ، وانتهت حياة العاشق المغامر كما تمنى ، ورب امرئ حتفه كما تمناه .  

رحم الله أمواتنا وأمواتكم ، وأحسن الله ختامنا وختامكم ..