في عام 1999 توفي القائد
العسكري لشرق رام الله وغرب النهر في ثورة 1936 عبد الفتاح المزرعاوي الملقب بأبي سواد
عن اثنين وتسعين عاما، وجرت له جنازة مهيبة رسمية وشعبية، فالفقيد من المحاربين
القدامى، وأحد المجاهدين الذين أبلوا بلاء حسنا في تلك الثورة، وقام ببطولات راحت
مضرب المثل في المنطقة.
العجيب أن الحاجة جميلة
أم عبد الغني من كفرمالك زغردت فرحا عندما بلغها خبر موته، ووزعت حلوى على جيرانها
وعلى الذين مروا من أمام دارها ذلك اليوم، وأم عبد الغني فلاحة مكافحة عاشت على الفطرة،
وأفنت سنين عمرها راعية لأولادها الستة، لا دخل لها بالسياسة ولا الثوار، فما القصة؟
أيام ثورة 1936 والتي
امتدت لثلاث سنوات، وفي شتاء بارد تساقط فيه الثلج والبرد، والشتاء عند الفلاحين ضيق
ولو كان فرجا، حدث خلاف عادي في حوش دار شناعة بين الزوج جميل وزوجته زهية، خلاف
عائلي لا يخلو منه حوش في القرية، حيث الزوج والزوجة والعائلة على مصطبة واحدة، فكان
أن حَرَدت الزوجة وغادرت الحوش تسبقها دموعها إلى دار أبيها أبو أحمد في حوش
البابور.
خلاف عادي بين زوجين كان
من الممكن أن ينتهي بفنجان قهوة ومسحة لحية من أحد الغانمين من أهل الصلح، ولكن فضية
أم الزوجة، ادعت أن أهل الزوج أخذوا ذهب البنت صداق رقبتها وطردوها، وحرّضت زوجها قاسم
وابنه أحمد على أنسبائها، ليعدوا لابنتهم حقها المسلوب ، فزَع قاسم وابنه أحمد إلى
حوش دار شناعة يطالبون بذهبات الزوجة الحردانة، وقامت طوشة حامية الوطيس شارك فيها
الرجال والنساء، وخلال الاشتباك هاجم الزوج أخا زوجته الحردانة وعضه على شفته
السفلى فسلخها بين أسنانه، وسال الدم، احتاجت فيما بعد إلى عدة قطب لكي تعود
مكانها، وظلت شاهدة على الوقعة التي حدثت بين العائلتين.
تدخل الثوار لوقف
النزاع وحل المشكلة، وكان على رأسهم قائد الثورة في المنطقة الشرقية أبو سواد ، ولما
أنكر الطرفان الاعتراف بمكان الذهبات ، وبقي سبب المشكلة قائما، أمر أبو سواد بإلقاء
القبض على كبار العائلتين والدي الزوج والزوجة، وأعطى أمرا بحجز الرجلين في قعر
بئر مهجورة في حريقة عقبة فوق مشمشات دار القاق، وقال لهما لن تخرجا من البئر حتى
تعترفا بمكان الذهبات ، وكان الفصل شتاء شديد البرد ، والثلج يتساقط على القرية ، لذا راح المحتجزان
في البئر ينطان طلبا للدفء وكي لا يتجمدا من البرد، وفيهم قال شاعر كفرمالك أحمد أبو
ندية :
أبو قاسم وأبو
جميل عملوا الدبكة جوا البير
فضيّـة يا مدهية يا قبــــــرتي زهيّة
قومي جيبي الذهبات قتلونا
العصابات
ومكث الرجلان في
البئر يوما أو يومين ولكن دون جدوى، فهما لا يعرفان شيئا عن الذهبات، هنا قرر أبو
سواد اخراج الرجلين من البئر، والتحقيق معهما في مضافة الحمولة، وعندما لم يفلح
التهديد والوعيد في كشف سر الذهبات، ضاعف الثوار التنكيل بالرجلين، وأمر أبو سواد
بأن تنزع ثيابهما ويربطا ويتركا في البرد الشديد على سطوح المضافة حتى يعترفا بالجرم
وتظهر الحقيقة وينتهي النزاع.
هنا أمام إصرار الرجلين
على الإنكار، أمر القائد أبو سواد بإحضار من بقي من أفراد عائلة الزوج للضغط
عليهما لعله يجد ما يبحث عنه.
ولم يكن أمام الثوار
غير الشاب حسن ، فبعد الطوشة الأولى اختفى الزوج جميل بعد قطع شفة أخي زوجته، وهرب
كذلك أخوه محمد ، وأخوهما الرابع موسى كان صغيرا، ولم يبق من أهل الزوج إلا الشاب حسن الأخ الثالث الذي كان في بداية
العشرينيات، ولما لم يبق من الإخوة غيره أمر أبو سواد بالقبض عليه لاستجوابه ، وساقوه
إلى مضافة الحمولة، في عز البرد والثلج، جردوه من ملابسه وبقي بالسروال، أنكر حسن
معرفته بمكان الذهبات، وبدأ تحقيق عنيف مع الشاب حسن، وأمام إنكاره معرفة مكان
الذهبات، انهالوا عليه ضربا وهو عار إلا من السروال، وهو مصر أنه لا يعرف، اشتد
الضرب، وتناوبوا عليه بأمر القائد بالكرابيج والعصي، حتى عجز الشاب عن الحراك،
وتبين أنه لا يستطيع الوقوف على قدميه، وراح يصرخ من شدة الألم ، فقد تبين أن ظهره
قد كُسر من شدة الضرب.
فيما بعد سافر به أهله
إلى بيت لحم عند أقارب لهم، وقام طبيب بوضع قالب من الجبص لكي يستطيع اسناد ظهره، وقيل
إن هذا القالب لم يفك عنه إلا يوم زواجه. وفيما بعد ظهرت في ظهره قروح ظل يعاني
منها وكانت سببا في وفاته في مطلع الخمسينات بسبب الإهمال طبي.
وعند\ما بلغ السيل
الزبى، وبلعت المعاناة قمتها، تداعت نساء القرية يسترحمن القائد أبو سواد والثوار كي
يعفو عن الرجال، ويتوسلن لهم انقاذ المحتجزين من البرد والثلج.
ولما اشتد التنكيل
بهما، اعترفت فضية أم الزوجة أنها قامت بصرف الذهبات لكي تنفقها على بنتها
الحردانة، هنا أوقف أبو سواد التحقيق القاسي، وتم الصلح على أن يعوّض أهل الزوج
بقطعة أرض في الحبلة مقابل الذاهبات من أملاد دار قاسم.
الحاجة جميلة أم عبد
الغني ظلت تحمل في صدرها أسى وحزنا بسبب ما جرى لأخيها الشاب حسن، وترى أن القائد
أبو سواد ظلم أخاها، ولم تنس، وبعد ستين عاما على الحادثة كان جرح القهر ما زال
ينزف، لذلك خالفت كل الناس الذين حزنوا على وفاة مجاهد بطل، ووزعت حلوى. فالأسى لا
ينتسى.
رحم الله القائد المجاهد
أبا سواد، والحاجة المكلومة جميلة وأخاها المظلوم حسن، ولكل جواد كبوة ولكل فارس هفوة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق