الأربعاء، 25 يناير 2017

العاشق المغامر .. صبحي زعيتر


من دفاتر كفرمالك

العاشق المغامر .. صبحي زعيتر



1 : قبل البداية

هل سمعتم عن رجل من كفرمالك صُمد والده على صخرة في عين سامية وقضى شهر العسل في مغارة  ؟

وهل مرت بكم قصة زواجه حيث دفعت العروس مهره وكان المهر بارودة  انجليزية ؟

وهل سمعتم أن ذات الرجل دوخ الكابتن فورت زمن الانتداب الانجليزي ؟

وما رأيكم أن هذا الرجل عاش أكثر قصص العشق في كفرمالك تحديا وجرأة ثم تزوج في الغربة من أجنبية غريبة وهجر زوجته ونسي حبه العظيم ؟

هو مغامر كفرمالك وعاشقها وقناصها وبهلوانها ..

تابعوا سيرة العاشق المغامر .. التي أخرجها لكم في هذه الحلقات من دفاتر كفرمالك العتيقة ..



2 : ( الصمدة ) على صخرة وشهر العسل في مغارة..



في عام 1915 أو قريب منها ، جاء الجنود الأتراك إلى قرية كفرمالك لتجنيد شباب للخدمة الإلزامية في حروب الدولة العلية في مشارق الأرض ومغاربها ،  كان عيسى شابا في سن ملائمة للتجنيد ، ولما علمت أمه بهدف الجنود ، لملمت ما تيسر وأخذت ابنها الشاب معها، وهربت به  إلى عين سامية لتخفيه عن عيون الجنود ، وتنقذه من رحلة مجهولة العواقب .

في عين سامية تجمع حول الأم وابنها الشاب الأهالي ، وقال لها بعض أصحاب الخبرة أن الطريقة الوحيدة لكي تحتفظ بابنها هي أن تزوجه ، لأن الأتراك لا يأخذون الشاب المتزوج حديثا ، بحثت الأم عن بنت تزوجها من ولدها على وجه السرعة ، ووجدت ضالتها في صبية هي ابنة الداية خديجة العنتري ، والداية خديجة أرملة قتل زوجها في طوشة قامت بين حمائل القرية عند عقد العلالي ، وهي أمرأة تصنف في القرية من أخوات الرجال حكيمة وقوية ، وبذات الوقت فإن الشاب عيسى مطمع للنسب وعائلته مناسبة للمصاهرة ، وفعلا تمت الجاهة والخطوبة على وجه السرعة ، ولكسب الوقت في عقد الزواج قبل وصول الجنود ، أقيم عرس للشاب عيسى في عين سامية ، وتمت ( الصمدة ) على صخرة عند البيادر ، جلس عليها العريس والعروس ، وحضر من تواجد من أهالي كفرمالك ، وأقاموا عرسا مستعجلا كيفما تيسر ، ونجا عيسى من السفر .
من هذا العرس الذي تمت فيه الصمدة على صخرة ، وشهر العسل في مغارة ، ولد الطفل صبحي ، وتعلم المشي خلال الحرب العالمية الأولى ، وشب تحت حكم الانتداب البريطاني ، وكانت له مواقف جمعت قوة البدن وشجاعة القلب وفكاهة الروح
  ، تلك المواقف العجيبة الغريبة التي ما زال أهالي كفرمالك يرونها ، منها ما يصدقه العقل ومنها ما أغرب من الخيال ..

يتبع ..

2 : الصبي الذي لا يقهر ..

افتتحت مدرسة كفرمالك الأميرية عام 1928 ، ولأول مرة سيذهب الأولاد إلى شيء يسمى مدرسة ، ولم يكن للمدرسة بناية مستقلة ، لذلك استأجر المخاتير غرفتين اتخذوهما مدرسة ، وكانت مكونة من أربعة صفوف : التمهيدي والأول والثاني والثالث لا غير ، بلغ عدد طلابها عام 1933 ستون طالبا .

التحق صبحي بالمدرسة منذ تأسيسها وكان وقتها قد بلغ من العمر ثمانية سنوات ونصف حسب السجلات الباقية من ذلك العهد ، وحسب سجلات الحضور والغياب كان هو وسعيد عادي من الطلاب القلائل الذين لا غياب عندهم تقريبا خلال السنوات الأربع ، وكان سعيد رمزا للطلاب المتفوقين دراسيا وصبحي بطل جميع أنواع الألعاب .

نشأ صبحي رياضيا قوي البنية لا يجرؤ أحد من أبناء جيله على مصارعته ، ونشأ جريئا لا يعرف الخوف والتردد إلى قلبه طريقا ، وتخرج من المدرسة وانتهت حياته الدراسية بعد الصف الثالث ، وهذا ما حدث مع الطالب سعيد عادي أيضا ، وقتها عرض أحد المعلمين أن يدرس سعيد على نفقته بحيث يقبل الأب بإعطاء المعلم نصف راتبه عندما يتخرج ، ولكن والده فضل أن يرعى الطالب المتفوق سخول العائلة على اكمال دراسته . 

الفتى صبحي واصل تميزه بقوته البدنية مضرب المثل ، ثم صار الكبار يكلفونه برعاية خيول ضيوف القرية في المضافة لكي يسقي الخيل ، وكان هو يستغل الفرصة لكي يركب هذه الخيول ، حتى صار الفارس الأول في القرية .

يومها كانت الفروسية والرجولة تعني ركوب الخيل وإتقان التصويب على البندقية ، وصار يرافق الثوار الذين يلجأون للقرية بعد تنفيذ عمليات فدائية في عيون الحرامية ضد الإنجليز ، ويساعدهم في الهروب والتخفي ،  

وتعلم استخدام البواريد ، وصار حلمه أن يحصل على بارودة خاصة به ، والباردة ثمنها أربعة جنيهات فلسطينية ، والجنيه يساوي ثلاثة عثمليات ، وذلك مبلغ كبير يوم كانت يومية العامل خمسة قروش ، ذلك الحلم سوف يحققه بطريقة عجيبة ..

3 :  اللوز المسروق ومروءة الحاج عبد الجليل

عاش صبحي مع أعمامه في بيت العائلة في حارة العامود وسط البلد مكان ساحة الجامع اليوم ، وكان جاره القريب الحاج عبد الجليل أبو عايش وعائلته ، وكان الحاج عبد الجليل صاحب كرم لوز ، وكان قد جد لوز تعميرة واد نصير ، وفرده على سطح بيته ليجف ، إحدى نساء الحارة أغرت الفتى صبحي بأن يسرق لها كيس من اللوز مقابل أن تبيعه وتعطي صبحي نصيبه ، وأطاع الفتى وسوسة المرأة .

جاء صبحي بعد أيام وهو يلبس دماية روزا لامعة وكندرة جديدة ، عمه محمـد لما رآه سحبه داخل البيت ، وسأله عن لباسه الجديد ومن أين أتى بالمال ، وتحت التهديد والوعيد ، أقر صبحي بمصدر المال ، هنا قام عمه محمـد بتجريد الولد المغرر به  من الدماية والكندرة وقطعهما بالشبرية ، وعاقب صبحي بأن ربطه وحبسه على المزبل في قاع البيت .

ذهب عمه محمـد لجاره الحاج عبد الجليل ، وأخبره بقصة السرقة ، والعقاب الذي أنزله بالولد لكي يعلمه الأدب واحترام حقوق الجار ، كان رد الحاج عبد الجليل عجيبا ، فقال لجاره محمـد :

ـ حرام عليك يا  جار، الولد كان مبسوط بالكسوة الجديدة ، وعشان حفنة لوز كسرت خاطره !! والله العظيم لتكون كسوته على حسابي .

وفعلا ذهب الحاج عبد الجليل وفك رباط الولد ، وطيب خاطره ، واشترى له دماية وكندرة جديدة .

وكان صبحي يحدث بهذه القصة لكل من يعرفه ، ويترحم على جاره الحاج عبد الجليل صاحب المروءة الذي خلصه من ورطة أوقعته حبال إبليس ، وفي بلدنا يقولون : " حبال الشيطان من غزل النسوان " .

وهن ذات النسوان اللواتي سيرسلن الفتى صبحي في فزعة لعيون الحرامية بعد حين ..



4 : كيف صار الفتى صبحي من أهل الفزعة ..

جاء مرسال من الثوار إلى مضافة القرية يطلب فزعة لوقعة في واد البلاط ، وكان على أهل المروة والنخوة أن يلبوا صريخ المنادي ، والمقصود بالفزعة أن ترسل كل بلد بعض الرجال يساندون الثوار من بعيد ، ويحمونهم ويغطون عليهم عند الانسحاب ويسعفون الجرى ، وأهل كفرمالك كانوا في ثورة 36 من أهل الفزعة ، وكانت الفزعة المالكية تسند الظهر وتجبر الكسر ، أي مفيدة في الهجوم وفي الانسحاب ..

وكان للفزعة نظام وترتيب بين العائلات ، فعلى كل عائلة في القرية  أن ترسل بواردي واحد على الأقل بالتناوب بين أفخاذ العائلة ، وكان الدور في دار معدي عند دار عيسى ، فقال الفتى صبحي :

ـ يا عمي أنا بدي أطلع هذه المرة .

فقال عمه : اقعد يا ولد ، بدك عمك يقعد مع النسوان في الطوابين وانت تطلع مع الرجال .

وجاء الترك ( الشاحنة ) وركب البواردية أهل الفزعة ، وانطلقوا في الطريق الترابية صاعدين نحو العاصور ، ولما وصلت الشاحنة قوربة (منحنى) دار أبو خضر بطنجت ( تعثرت ) ، فنزل الرجال يدفعون السيارة ، فكانت المفاجأة أن وجدوا الفتى صبحي متعلقا تحت باب الشاحنة الخلفي ، جن جنون أبو معدي ، وقبض بتلابيب الفتى ، وقال له :

ـ ولك شو بتساوي هان يا قرد العزا .

أجاب صبحي : قلت أجيء معكم يمكن تحتاجوني .

فقال العم :

ـ ولك يا تيس ما في رجال في الدار غيري وغيرك ، واحنا رايحين على حرب وضرب رصاص ،  إذا أنا رحت بظل واحد يدير باله على الدار ، يعني بدك نروح الاثنين .. انقلع .. ارجع

ورجع الفتى صبحي ، ولكنه شارك بعد ذلك في كل فزعات أهل كفرمالك ، ومن أهمها فزعة القسطل بعد عشر سنين يوم استشهاد القائد عبد القادر الحسيني .. 



5 : الشاب الذي تزوج  بارودة

وكبر صبحي وصار الشاب القوي المغامر الشجاع ، فصار مطمعا لبنات البلد ، ذات يوم وصله خبر أن قريبته الأرملة محمـدية العدوي أسرت لبعض صويحباتها : إذا تزوجني صبحي سأشتري له بارودة ، وحقق الشاب صبحي أمنية الأرملة ، وحقق معها أمنيتين إضافيتين : الأولى أنه سيرث قريبته التي لا وارث لها ، والثانية أن قريبته تسكن في حوش محبوبته التي يسعى لرؤيتها والوصال معها بأي ثمن ، فيكون بذلك قد اصطاد ثلاثة عصافير بحجر واحد . 

ليلة الدخلة وبعد السهرة والحناء والزفة وسف المناسف على حساب العروس ، تأخرت امرأة تدعى نجمة عند العروس ، وجاء صبحي ، وتأخرت الست نجمة بالسهرة ، ثم استأذنت لتعود إلى بيتها ، فقال صبحي :

ـ مش عيب تروحي بالليل لحالك ، لازم أوصلك لباب داركم ، وترك صبحي عروسه بشنبرها وثياب عرسها ، وشكل البارودة على كتفه ، وذهب يوصل نجمة ، وانقضى الليل ولم يعد ،  في الصباح جاءت جارة تهنئ محمـدية العروس بالصباحية ، فقالت لها العروس :

ـ روحي هني نجمة ، أنا يا دار ما دخلك شر .

ومنذ تلك الليلة انشغل صبحي عن عروسه بالبارودة حتى صار من قناصي كفرمالك المعدودين ، وبقيت صاحبة البارودة زوجة بالاسم ، طلقها يوم تزوج محبوبته الأثيرة العفيفة ، وعندما سافر إلى البرازيل هجر محبوبته الأثيرة وآثر عليها الطير الغريب .. فكان أول من سن فشل قصص الغرام في كفرمالك ، فأغلب الزيجات في بلدنا التي كانت نتيجة حب جارف جرفتها الأيام بالطلاق أو بتعدد الزيجات ، فصدق عليهم قول نزار قباني :

أتراها تحبني ميسونُ *** أم توهمتَ والنساء ظنونُ



6 : لويح الدبكة الشاطر ..  

كان صبحي فاكهة الأعراس والسهرات ، فهو صاحب الفقرة المسرحية المنتظرة من الساهرين ، كان يقدم فقرة تمثيلية ساخرة حيث يلبس لحافا ، ويصنع لنفسه بطنا كبيرة ، ويقلد بعض مخاتير البلد في مشاهد يفرط عليها الناي من الضحك .

بالإضافة لموهبته في التشخيص ، كان صبحي دبيكا نشطا يقود صف الدبكة بحركات رشيقة بهلوانية ، وذات سهرة كان يدبك على حيطان  علية البعيرات ، وتجتمع النساء في حوش دار المهرور ، وأراد أن يري النساء والرجال مشهدا طريفا ، وأراد قبل ذلك أن يلفت نظر محبوبته عفيفة التي تشارك في السهرة ، فصاح بصف الدبكة موجها خطواتهم : ثلاثة وانزل  . فدق برجله ثلاث دقات ثم قفز عن ظهر الحيطان نازلا بين النساء الساهرات في الحوش . والمسافة كبيرة ، ولكن الشاب قفزها دون أن يحدث له أي ضرر ، وأتم الدبكة بين النساء ، وهو ينظر إلى محبوبته ، وكأنه يقول لها .. من أجل عينيك لرمي حالي من العالي .

وأول مواجهة للفتى المغامر صبحي  مع العساكر الإنجليز كانت في أواسط الثلاثينيات ، حيث حضر بعض العساكر الإنجليز سهرة في الحارة عند دار غنايم ، ووقفوا لمشاهدة حلقة الدبكة التي كان يقودها صبحي ، يضرب الأرض بخفة الطائر وبحركة سريعة قام صبحي بخطف برنيطة أحد الجنود ، وانطلق كالسهم نازلا نحو لوز واد العَبّاد ، حاول الجنود اللحاق به دون جدوى ، فقد عرف عن صبحي سرعته الفائقة في الجري . هذه المزحة الثقيلة جعلت الكابتن فورد الضابط الإنجليزي في المنطقة يتربص بصبحي الدوائر.

ذات مرة صادف الكابتن فورد  الشاب صبحي في الزقاق قريبا من بيته ، كان صبحي قد عنكر عقاله ، وأمام بعض نساء الحي ، نزغ الكابتن عقال صبحي ورماه أرضا ، أُحرج الشاب صبحي وكتمها في نفسه ، وذات يوم جاء الكابتن فورد يرافقه أحد أعيان المنطقة  من دار الضامن  لزيارة للقرية ، وجلسوا في علية البعيرات ، هنا تعمد صبحي أن يعنكر عقاله ، ويتمتختر أمام الكابتن ، طبعا فورد لا يستطيع أن يفعل شيئا بسبب وجدود الوجهاء ، فقال لمرافقه :

ـ شوف العربي ، يتباهى بعقاله ؟

قال المرافق : لكي تعرف أن شهامة العرب في رؤوسهم وشهامة الانجليز في ....  ( قفاهم ) .



7 : مرجوحة التعذيب .. ومقص صبحي العجيب ..!!

ومرت سنون ، وقامت الثورة والإضراب الكبير ، وتعرضت كفرمالك لعدة تطويقات بحثا عن الثوار والأسلحة،  ويذكر أهالي كفرمالك من بينها التطويقة الكبيرة عام 1938 ، كانت هذه الحملة من أشد الحملات رعبا وتنكيلا بالسكان ، وسماها أهل كفرمالك الكبيرة لأن الإنجليز جمعوا رجال كفرمالك في الحارة الفوقا عند دار عياد اليوم ، وضربوا حول المعتقلين سياجا ، ومنعوا عنهم الزاد والماء حاسري الرؤوس في الحر الشديد لأكثر من ثلاثة أيام ، وخلال تلك التطويقة استشهد أحمد عبد الحي عندما حاول أن ينقذ نفسه من الموت عطشا ، وادعى أن لديه بندقية خبأها عند نبع عين سامية ، وفعلا أخذه الجنود للعين ، وعندما شاهد الماء هرب محاولا الوصول للماء ليشري ، فأطلقوا عليه النار ويقط شهيدا .

في هذه التطويقة كان صبحي عائدا إلى البلد من واد سموم يقود حميرا محملة بالكرسنة ، ألقى الجنود الإنجليز عليه القبض أمام بيته ، وأخذوه إلى الطوق لينضم لباقي المحتجزين  .

 أقام الضباط الإنجليز غرفة تحقيق وتعذيب في علية دار المدني ، وجاء دور صبحي ، ربطوا يديه في حبل علقوه  بكِلّاب في سقف الغرفة ، ورفعوه عن الأرض ، وصاروا يضربونه بالعصي والكرابيج وهو يتأرجح مشبوحا في الهواء ، زادوا عليه الضرب ، ولما فاذ الحر على المسطاح  ما كان من صبحي  إلا أن اندفع بجسمه المعلق ، وأطبق بكلتا رجليه على رقبة أحد الضباط ، وراح يخنقه بشدة ، ولما فشل الجنود في تخليص الضابط  من مقص صبحي القوي قاموا بقطع الحبل ، فسقط  صبحي على الأرض ، وانهالوا عليه ضربا مبرحا حتى غاب عن الوعي .

 عندما أفاق صبحي من غيبوبته وجد نفسه  محبوسا في بئر قريب من المقاطعة في رام الله ، وبدون أسنان .. ولكن صبحي قرر الثأر لأسنانه ولو طال الزمان .



8 : تفجير فندق الملك داود .. وبطولة صبحي ..  

في بداية الأربعينيات انضم صبحي إلى الحرس الإضافي الانجليزي ضمن حملة التجنيد التي قادها فايز بك الإدريسي لاستيعاب الثوار ، وكانت خطة الإدريسي الخبيثة تقوم على مرحلتين : الأولى هي العفو عن الثوار أصحاب الماضي المشاغب ، والثانية توفير وظيفة للتائيين بإلحاقهم بدورة تدريب عسكرية في بيت لحم ، ويتم بعدها تعيين الناجحين في سلك البوليس الإضافي ، مقابل راتب شهري قدره خمسة جنيهات فلسطينية ،  الجنيه الواحد في ذلك الوقت كان يعادل ثلاث عثمليات ، أي كان المبلغ خياليا في تلك الأيام .

كان صبحي من فرقة الحراسة التي تحرس فندق الملك داود في القدس ، الذي استخدم الإنجليز الجناح الجنوبي منه مقرا للإدارة العسكرية العامة البريطانية ، ونفذت عصابة الأرغون الصهيونية عملية تفجير ضخمة في الفندق بزعامة مناحيم بيغن عام 1946 ، قتل خلال تلك العملية 91 شخصا وجرح حوالي 45 آخرين .

 كان صبحي في دورية الحراسة على سطح الفندق ، وبعد الانفجار دارت اشتباكات حول الفندق ، هنا استغل صبحي موقعه ، وفي غمرة الفوضى التي قامت راح يصطاد من وقعت عليه عينه من الإنجليز واليهود المتواجدين في المكان ، وأسقط قنبلة على تجمع منهم تحت الفندق ،  فأوقع عدد لا بأس به قتلى وجرحى ، وبقيت تلك العملية البطولية التي قام بها صبحي سرا دفينا لم يكشف عنه إلا بعد وفاة صبحي ، وظلت من مآثر الرجل التي لا تنسى ..



9 : كيف ودع صبحي  الكابتن فورت ..

ذات يوم حضر الكابتن فورت لمضافة القرية ، طويل وأشقر حاقد ملعون والدين ،  ومعه فريق من الشرطة الخيالة ، مصطبة المضافة كانت محفرة من كثرة الحركة عليها ، وراح البعض يحضر عليق الخيل ، وانشغل آخرون بتجهيز طعام الضيوف ، ودارت دلة القهوة على الحاضرين .

 كان ذلك في عام 1946 أي قبل رحيل القوات البريطانية عن المنطقة بأقل من عامين ، وأثناء تقديم القهوة للضيوف ، تفحص الكابتن فورت الموجودين ، وهو جالس على فراشه تحت الشبابيك الغربية ، وفارد رجليه في وجوه الآخرين، فوجده معنكر عفاله فخرا وتباهيا ، وكان من أنشط شباب القرية سرعة وخفة ، وكان في كثير من الحالات يباري الخيل الجامحة في الميدان ركضا على الأقدام ، ولو كان الضابط يعرف ما سيجري لما فعل ما فعل ، حيث قال للشاب : إنت .. إنت تعال هون ، وعند حضوره أمام الضابط أشر له على رجليه بأن يخلع نعليه بيديه ، وامتقع وجه الشاب من ذلك الموقف المهين، وراح يلتفت يمنة ويسرة حيث كان سريع البديهة ، وبسرعة فكر بما سيفعل ، وألح عليه الضابط بأن يفعل ما طلب منه ، وما كان منه إلا أن أمسك برجل الضابط بكل قوة ، وشحطه على الأرض من غرب المضافة إلى شرقها ، وأمام صراخ الكابتن ومسياته وتهديداته ، أفلت صبحي يسطار الضابط بعدما شحطه على الأرض ، وقفز من الشبابيك الشرقية ، على ارتفاع طابقين ، وهرب بخفة الخيل وسرعة البرق، ولم يكن بوسع الفرسان أن يفعلوا مثل ما فعل، بل خرجوا من باب المضافة إلى الحيطان المجاورة حتى وصلوا إلى خيولهم ، وحاولوا اللحاق به ولكنهم لم يفلحوا .أما بالنسبة للضابط المتعجرف والذي لم يتوقع مثل تلك الفعلة حيث تهشم ظهره من حفر الأرضية وقوة السحب ، ولم ينتظر الجنود غداءهم بل غادروا على وجه السرعة لعلاج الجريح ، وقيل لي بأن الضابط مكث قرابة الأسبوع لا يغادر المركز حتى تعافى ، وحاول فيما بعد العثور على الفاعل ولكنهم انسحبوا من فلسطين قبل أن يقبضوا عليه .. .  

10: الاغتراب .. قنطار خشب على درهم حلاوة

في بداية الخمسينيات سافر صبحي إلى جزيرة المارتنيك ،  وهي جزيرة صغيرة في البحر الكاريبي تتبع لفرنسا ، وبدأت هجرة بعض أهالي كفرمالك إليها في بداية الثلاثينات ، ومن طرائف ملاحظات المعلمين على دفتر الحضور والغياب في مدرسة كفرمالك الأميرية عام 1933 عن طالبين في الصف الثالث يحملان اسم محمود ، الأول محمود عمرة ترك المدرسة لكي يلتحق بوالده في فرنسا ، وتحته مباشرة محمود صالح ترك المدرسة لكي يلتحق بوالده في الحراث .

سافر صبحي لكي يلتحق بوالده الذي سبقه بالاغتراب ، ولكن شخصية صبحي المغامرة لم تتفق مع شخصية والده وعمه المحافظة ، فأراد أن يغير تجارتهم وطريقة عملهم ، واكتشف أن الدبكة عنوان الرجولة اسمها في المارتنيك الرقص ، والرقص عندهم غير الدبكة عندنا ، فهو عندنا رمز الرجولة جماعي مع الرجال ، وعندهم رمز الفحولة زوجي مع واحدة من النساء ، فلم يطل وفاق الأب المحافظ والابن المغامر ، فقام الوالد بسحب كفالته لابنه الذي لا يحمل الجنسية الفرنسية ، واضطر صبحي للسفر عند أقارب له في البرازيل .

في عام 1964 عنكر صبحي قبعته في المهجر عندما جاءته أخبار سارة بأن ولده البكر ماهر حصل على المرتبة الأولى في التوجيهي على مستوى المملكة ، ولكن غصة جاءته من الحكومة الأردنية عندما كافأت ابنه ببعثة لدراسة الزراعة ، هنا قرر صبحي أن يرسل ابنه المتفوق لدراسة الطب في جامعة القاهرة على نفقته الشخصية .

وبعد سنة من حرب 1967 سافرت عائلة صبحي لتنضم له في البرازيل ، واكتشفت زوجته أن زوجها العاشق قد وقع في قفص طيور غريبة ، فهجر قفصها الذهبي ، وعاش مع الطير الغريب ، مثله في ذلك مثل أغلب المهاجرين من أهل فلسطين . 



11 : من طرائف صبحي في البرازيل ..



أقام صبحي في البرازيل في مدينة كورومبا في جنوب البرازيل على حدود الأرغواي ، وعمل في تجارة الملابس ، وكان من عادة تجار تلك المدينة أن يسافروا بالقطار إلى سان باولو عاصمة البرازيل التجارية لشراء البضائع .

ذات مرة سافر صبحي إلى سان باولو للتبضع ، وبعد أن أتم مشترياته استقل القطار عائدا إلى مدينته ، توقف القطار عند إحدى المحطات للاستراحة ، حيث يقضي الركاب بعض حاجاتهم ويتناولون وجبة خفيفة ، هناك تعرف صبحي العاشق المغامر على فتاتين برازيليتين تواجدتا في المكان ، كان تعارفا عابرا من باب الشقاوة التي اشتهر بها صبحي ، ثم أطلق القطار صافرته وركب صبحي مواصلا رحلته .

أخرج صبحي يده من الشباك يلوح بها مودعا الصبيتين ، وحدث أن سقطت ساعته من يده ، فما كان من صبحي إلا أن قفز من شباك القطار المنطلق إلى الأرض ، وقع على مشهد من الصبيتين دون أن يتعثر أو يقع ، اتجه حيث تقف الصبيتين وقال :

ـ أهذا يرضيكما .. كدت أموت كي أقول لكما مع السلامة ، والقطار تركني؟  

أدهش الموقف الصبيتين ، فقالت إحداهما :

ـ والدي لديه فازندا ( مزرعة ) قريبة ، إذا كنت تجيد ركوب الخيل ، اركب هذا الحصان واتبعنا نعرفك على والدي ويحل لك المشكلة .  

وانطلق صبحي على صهوة الحصان وراء الصبيتين اللتين ركبتا على حصان واحد ، ثم انطلق كالريح يسابق صاحبتيه ، وصل إلى المزرعة ، وقصت الصبيتان على والديهما القصة ، أعجب الأب بجرأة صبحي ، وبعد تقديم واجب الضيافة قال له :

ـ اسمع أنا عندي طائرة تيكو تيكو .. سأطلب من الطيار أن يوصلك لسان باولو ومن هناك تركب القطار وتعود إلى بلدك .

وركب صبحي الطائرة ذات المحرك الواحد لأول مرة في حياته ، وترك تلك المغامرة الشقية قصة شيقة يرددها أهل كفرمالك في المهجر من باب عجائب وطرائف صبحي زعيتر ..





12 : صبحي .. يتطوع لعملية فدائية



في صيف عام 1968 وبعد معركة الكرامة بشهور ، قام صبحي بزيارة سرية مفاجئة إلى الأردن ، لم يخبر أهله في البرازيل ولا أصدقائه عن سفره ،  ولم يره أحد من أهالي كفرمالك الذين كانت تغص بهم العاصمة الأردنية ، وكان غايته واضحة محددة ، قصد مكتب المنظمة ،  وراح يبحث عن صديق قديم من كفرمالك هو مصطفى حمد أحد قادة حركة فتح في الأردن ، كان مصطفى قد تزوج حديثا ، وانتقل من العقبة للإقامة في عمان ، في ذلك الوقت كان مصطفى يعمل في مكتب أبي عمار في العاصمة ، توجه صبحي للمكتب وسأل عن مصطفى حمد ،  وقيل له ليس عندنا أحد اسمه مصطفى ، هناك شخص واحد من كفرمالك اسمه ربحي موسى ،  طلب صبحي مقابلته ، فأخذوه إلى مكتب يجلس به مصطفى حمد ، تعانق الرجلان بحرارة ، وأصر مصطفى حمد الذي يحمل اسما جديدا على دعوة صبحي للغداء .

قال صبحي : اسمع يا قرابة ، أنا ما جيت من البرازيل لعمان للعزايم والطبايخ .. أنا جيت أطوع في الثورة عشان أدخل عملية فدائية ..

قال مصطفى : يا أبو ماهر .. هذه الشغلة بدها شباب .  

قال صبحي : وأنا شيخ الشباب .. أم نسيت أني أحسن قناص طلع من كفرمالك

وأمام إصرار صبحي وحماسته ، اصطحب مصطفى بلدياته إلى قاعدة للفدائيين في الأغوار ، وأراد مصطفى أن يثني صبحي عن نيته ، فعرضه لاختبار صعب :

ـ اسمع يا صبحي إذا نجحت في هذا الاختبار ، يمكن نسمح لك المشاركة في عملية .

وطلب مصطفى من المجموعة أن تصعد جبلا في المنطقة ، ومعهم صبحي ، وبدأ السباق ، وانطلق الشباب نحو قمة الجبل ، وكانت المفاجأة أن صبحي سبقهم جميعا إلى قمة الجبل .

عاد صبحي فرحا بأنه ما زال يحتفظ بقوته ولياقته ، أمسك بيد مصطفى وقال له :

ـ اللي أوله شرط آخره رضا ..

وعاد صيحي بصحبة مصطفى إلى عمان ،  وقضى فيها بضعة أيام ، ومصطفى يعده خيرا ، ولكن الأمر يحتاج إلى ترتيب ، ولما طال انتظار صبحي ، فاتحه مصطفى وصارحه :

ـ اسمع يا أبو ماهر ، كل وقت له أهله ، واحنا مش ملحقين نسجل متطوعين بعد معركة الكرامة ، كلهم شباب من جيل ابنك ماهر ، الكبار مثلك دورهم في الدعم والتخطيط ، شو رأيك لو أرسلنا ابنك الدكتور ماهر مكانك.

أجاب صبحي : ماهر ما زال يدرس وبعد سنتين يتخرج ..

قال مصطفى : ونحن بحاجة لدكاترة يسعفوا الجرحى .

وعاد صبحي إلى البرازيل ليكمل الانفاق على ابنه الذي يدرس الطب في القاهرة .. ولكنه لم ينس الوعد



 12 : على ماذا حلف صبحي بالطلاق ... ؟



ومضت سنتان ، وتخرج الطالب ماهر صبحي الحائز على المرتبة الأولى في الثانوية العامة على مستوى المملكة ، وحصل على المرتبة الأولى في جامعة القصر العيني في القاهرة ، وأعلن عن موعد حفلة التخريج ، لم ينس صبحي وعده لصديقه مصطفى ، فأرسل إليه يدعوه للمشاركة في حفل تخريج ابنه ماهر من الجامعة ، والتقى الاثنان في القاهرة ، وجلسا مجاورين في قاعة الاحتفال ، فرحا بالمرتبة التي حصل عليها ماهر ، واحتفلا بها بكل نشوة وفخر ، ثم نزل ماهر لكي يسلم على والده وصديقه ، فما كان من صبحي إلا أن أعلن صارما :

ـ اسمع يا دكتور ، انتظرت هذا اليوم طوال سنتين ، الآن عليك أن تخدم وطنك ، وتلتحق بقواعد الثورة في لبنان .

قال ماهر : يابا ، أنا لازم أسافر وأتخصص ..

فقال صبحي غاضبا : عليّ الطلاق من إمك إلا تروح وتنظم للثورة .

وهذا ما كان ، سافر ماهر إلى لبنان والتحق بالثورة طبيبا مسعفا ، كان خلال عمله يتنقل بين قواعد الفدائيين في الدامور والجنوب ، وعرف هناك على نطاق واسع ، وقدم خدمات جليلة للمقاتلين .

في 10 نيسان من عام 1973 وبينما كان الدكتور ماهر يخدم في مستشفى القدس جاءت سيارة إسعاف تابعة للهلال الأحمر الفلسطيني ، وكانت تحمل جثة الشهيد كمال عدوان الذي قتل في عملية فردان مع رفيقيه كمال ناصر وأبو يوسف النجار .

كانت القوة الإسرائيلية المهاجمة قد بالغت في إطلاق النار على وجه كمال عدوان بصورة مريعة ، فغابت معالم الوجه ، لما رأى الدكتور ماهر منظر وجه الشهيد أصيب بحالة من الخوف ، فإذا كان اليهود قادرين على الوصول لهؤلاء القادة ، فهم قادرون على الوصول إليه وإلى غيره .

وفي لحظة ضعف قرر الدكتور ماهر مغادرة لبنان وقواعد المقاومة ، وسافر إلى الولايات المتحدة ، وتخصص في جراحة الأوعية الدموية ، وأصبح فيما بعد من أشهر عشرين طبيب في تخصص جراحة الأوعية الدموية على مستوى العالم .



14 : نهاية العاشق المغامر ..  



في صيف عام 1992 عاد صبحي إلى مسقط رأسه في كفرمالك ، وعادت معه زوجته وأولاده ، واجتمع شمل العائلة بعد فراق طويل ، ورحلة عمر مليئة بالانجازات والاحباطات ، ومسيرة الحياة كالدائرة تبدأ حيث تنتهي ، وبين البداية والنهاية مغامرات وتجارب ، أفراح وأحزان ، فراق ولقاء على محيط الدائرة .

كثير ممن عرفوا صبحي في الغربة كان يرددون أمنية صبحي الغريبة :

ـ يا رب لا تميتني إلا في بلدي وأنا أدبك ..

وحدث أن جاء صبحي للمشاركة في سهرة قريب له من العائلة هو عبد الله الكحلة ، وكانت السهرة أمام بيت العريس في الحارة الفوقا ، سهرة تقليدية بدون مغني ولا دي جي ، وبدأت شبابة أبو سفيان  تستحث الشباب للاصطفاف في حلقة الدبكة ..

أول ما نبدي بسورة تبارك *** عرسك عبدالله يا ريتو مبارك  

 ودارت حلقة الدبكة ، وقام أبو الصادق وأمسك بيد صديقه القديم ، ودعاه للانضمام للدبكة ، لبى صبحي الدعوة دون اعتراض وانضم للشباب ، دارت الحلقة دورة والثانية ، ثم سكتت الشبابة ، وساد في المكان هرج ، وتجمع الناس حول صبحي الذي سقط على الأرض ، أسرع ابنه الدكتور ماهر يتفحص والده الملقى بين الجمع ، وهمس بإذن أخيه الدكتور عيسى بالانجليزية :

ـ أبوك أعطاك عمره ..

وحُمل صبحي إلى سيارة أسرعت للمستشفى ، وجاءت سكرة الموت بالحق ، وانتهت حياة العاشق المغامر كما تمنى ، ورب امرئ حتفه كما تمناه .  

رحم الله أمواتنا وأمواتكم ، وأحسن الله ختامنا وختامكم ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق