من دفاتر كفرمالك
العاشق المغامر .. صبحي
زعيتر
1 : قبل البداية
هل سمعتم عن رجل من
كفرمالك صُمد والده على صخرة في عين سامية وقضى شهر العسل في مغارة ؟
وهل مرت بكم قصة زواجه
حيث دفعت العروس مهره وكان المهر بارودة
انجليزية ؟
وهل سمعتم أن ذات الرجل
دوخ الكابتن فورت زمن الانتداب الانجليزي ؟
وما رأيكم أن هذا الرجل
عاش أكثر قصص العشق في كفرمالك تحديا وجرأة ثم تزوج في الغربة من أجنبية غريبة
وهجر زوجته ونسي حبه العظيم ؟
هو مغامر كفرمالك
وعاشقها وقناصها وبهلوانها ..
تابعوا سيرة العاشق
المغامر .. التي أخرجها لكم في هذه الحلقات من دفاتر كفرمالك العتيقة ..
2 : ( الصمدة ) على
صخرة وشهر العسل في مغارة..
في عام 1915 أو قريب
منها ، جاء الجنود الأتراك إلى قرية كفرمالك لتجنيد شباب للخدمة الإلزامية في حروب
الدولة العلية في مشارق الأرض ومغاربها ، كان عيسى شابا في سن ملائمة للتجنيد ، ولما علمت
أمه بهدف الجنود ، لملمت ما تيسر وأخذت ابنها الشاب معها، وهربت به إلى عين سامية لتخفيه عن عيون الجنود ، وتنقذه
من رحلة مجهولة العواقب .
في عين سامية تجمع حول
الأم وابنها الشاب الأهالي ، وقال لها بعض أصحاب الخبرة أن الطريقة الوحيدة لكي
تحتفظ بابنها هي أن تزوجه ، لأن الأتراك لا يأخذون الشاب المتزوج حديثا ، بحثت
الأم عن بنت تزوجها من ولدها على وجه السرعة ، ووجدت ضالتها في صبية هي ابنة
الداية خديجة العنتري ، والداية خديجة أرملة قتل زوجها في طوشة قامت بين حمائل
القرية عند عقد العلالي ، وهي أمرأة تصنف في القرية من أخوات الرجال حكيمة وقوية ،
وبذات الوقت فإن الشاب عيسى مطمع للنسب وعائلته مناسبة للمصاهرة ، وفعلا تمت الجاهة
والخطوبة على وجه السرعة ، ولكسب الوقت في عقد الزواج قبل وصول الجنود ، أقيم عرس
للشاب عيسى في عين سامية ، وتمت ( الصمدة ) على صخرة عند البيادر ، جلس عليها
العريس والعروس ، وحضر من تواجد من أهالي كفرمالك ، وأقاموا عرسا مستعجلا كيفما
تيسر ، ونجا عيسى من السفر .
من هذا العرس الذي تمت فيه الصمدة على صخرة ، وشهر العسل في مغارة ، ولد الطفل صبحي ، وتعلم المشي خلال الحرب العالمية الأولى ، وشب تحت حكم الانتداب البريطاني ، وكانت له مواقف جمعت قوة البدن وشجاعة القلب وفكاهة الروح ، تلك المواقف العجيبة الغريبة التي ما زال أهالي كفرمالك يرونها ، منها ما يصدقه العقل ومنها ما أغرب من الخيال ..
من هذا العرس الذي تمت فيه الصمدة على صخرة ، وشهر العسل في مغارة ، ولد الطفل صبحي ، وتعلم المشي خلال الحرب العالمية الأولى ، وشب تحت حكم الانتداب البريطاني ، وكانت له مواقف جمعت قوة البدن وشجاعة القلب وفكاهة الروح ، تلك المواقف العجيبة الغريبة التي ما زال أهالي كفرمالك يرونها ، منها ما يصدقه العقل ومنها ما أغرب من الخيال ..
يتبع ..
2 : الصبي الذي لا يقهر
..
افتتحت مدرسة كفرمالك
الأميرية عام 1928 ، ولأول مرة سيذهب الأولاد إلى شيء يسمى مدرسة ، ولم يكن
للمدرسة بناية مستقلة ، لذلك استأجر المخاتير غرفتين اتخذوهما مدرسة ، وكانت مكونة
من أربعة صفوف : التمهيدي والأول والثاني والثالث لا غير ، بلغ عدد طلابها عام
1933 ستون طالبا .
التحق صبحي بالمدرسة
منذ تأسيسها وكان وقتها قد بلغ من العمر ثمانية سنوات ونصف حسب السجلات الباقية من
ذلك العهد ، وحسب سجلات الحضور والغياب كان هو وسعيد عادي من الطلاب القلائل الذين
لا غياب عندهم تقريبا خلال السنوات الأربع ، وكان سعيد رمزا للطلاب المتفوقين
دراسيا وصبحي بطل جميع أنواع الألعاب .
نشأ صبحي رياضيا قوي
البنية لا يجرؤ أحد من أبناء جيله على مصارعته ، ونشأ جريئا لا يعرف الخوف والتردد
إلى قلبه طريقا ، وتخرج من المدرسة وانتهت حياته الدراسية بعد الصف الثالث ، وهذا
ما حدث مع الطالب سعيد عادي أيضا ، وقتها عرض أحد المعلمين أن يدرس سعيد على نفقته
بحيث يقبل الأب بإعطاء المعلم نصف راتبه عندما يتخرج ، ولكن والده فضل أن يرعى
الطالب المتفوق سخول العائلة على اكمال دراسته .
الفتى صبحي واصل تميزه
بقوته البدنية مضرب المثل ، ثم صار الكبار يكلفونه برعاية خيول ضيوف القرية في
المضافة لكي يسقي الخيل ، وكان هو يستغل الفرصة لكي يركب هذه الخيول ، حتى صار
الفارس الأول في القرية .
يومها كانت الفروسية
والرجولة تعني ركوب الخيل وإتقان التصويب على البندقية ، وصار يرافق الثوار الذين
يلجأون للقرية بعد تنفيذ عمليات فدائية في عيون الحرامية ضد الإنجليز ، ويساعدهم
في الهروب والتخفي ،
وتعلم استخدام البواريد
، وصار حلمه أن يحصل على بارودة خاصة به ، والباردة ثمنها أربعة جنيهات فلسطينية ،
والجنيه يساوي ثلاثة عثمليات ، وذلك مبلغ كبير يوم كانت يومية العامل خمسة قروش ،
ذلك الحلم سوف يحققه بطريقة عجيبة ..
3 : اللوز المسروق ومروءة الحاج عبد الجليل
عاش صبحي مع أعمامه في
بيت العائلة في حارة العامود وسط البلد مكان ساحة الجامع اليوم ، وكان جاره القريب
الحاج عبد الجليل أبو عايش وعائلته ، وكان الحاج عبد الجليل صاحب كرم لوز ، وكان
قد جد لوز تعميرة واد نصير ، وفرده على سطح بيته ليجف ، إحدى نساء الحارة أغرت الفتى
صبحي بأن يسرق لها كيس من اللوز مقابل أن تبيعه وتعطي صبحي نصيبه ، وأطاع الفتى
وسوسة المرأة .
جاء صبحي بعد أيام وهو
يلبس دماية روزا لامعة وكندرة جديدة ، عمه محمـد لما رآه سحبه داخل البيت ، وسأله
عن لباسه الجديد ومن أين أتى بالمال ، وتحت التهديد والوعيد ، أقر صبحي بمصدر
المال ، هنا قام عمه محمـد بتجريد الولد المغرر به من الدماية والكندرة وقطعهما بالشبرية ، وعاقب
صبحي بأن ربطه وحبسه على المزبل في قاع البيت .
ذهب عمه محمـد لجاره
الحاج عبد الجليل ، وأخبره بقصة السرقة ، والعقاب الذي أنزله بالولد لكي يعلمه
الأدب واحترام حقوق الجار ، كان رد الحاج عبد الجليل عجيبا ، فقال لجاره محمـد :
ـ حرام عليك يا جار، الولد كان مبسوط بالكسوة الجديدة ، وعشان
حفنة لوز كسرت خاطره !! والله العظيم لتكون كسوته على حسابي .
وفعلا ذهب الحاج عبد
الجليل وفك رباط الولد ، وطيب خاطره ، واشترى له دماية وكندرة جديدة .
وكان صبحي يحدث بهذه
القصة لكل من يعرفه ، ويترحم على جاره الحاج عبد الجليل صاحب المروءة الذي خلصه من
ورطة أوقعته حبال إبليس ، وفي بلدنا يقولون : " حبال الشيطان من غزل النسوان
" .
وهن ذات النسوان
اللواتي سيرسلن الفتى صبحي في فزعة لعيون الحرامية بعد حين ..
4 : كيف صار الفتى صبحي
من أهل الفزعة ..
جاء مرسال من الثوار
إلى مضافة القرية يطلب فزعة لوقعة في واد البلاط ، وكان على أهل المروة والنخوة أن
يلبوا صريخ المنادي ، والمقصود بالفزعة أن ترسل كل بلد بعض الرجال يساندون الثوار
من بعيد ، ويحمونهم ويغطون عليهم عند الانسحاب ويسعفون الجرى ، وأهل كفرمالك كانوا
في ثورة 36 من أهل الفزعة ، وكانت الفزعة المالكية تسند الظهر وتجبر الكسر ، أي
مفيدة في الهجوم وفي الانسحاب ..
وكان للفزعة نظام
وترتيب بين العائلات ، فعلى كل عائلة في القرية أن ترسل بواردي واحد على الأقل بالتناوب بين
أفخاذ العائلة ، وكان الدور في دار معدي عند دار عيسى ، فقال الفتى صبحي :
ـ يا عمي أنا بدي أطلع
هذه المرة .
فقال عمه : اقعد يا ولد
، بدك عمك يقعد مع النسوان في الطوابين وانت تطلع مع الرجال .
وجاء الترك ( الشاحنة )
وركب البواردية أهل الفزعة ، وانطلقوا في الطريق الترابية صاعدين نحو العاصور ،
ولما وصلت الشاحنة قوربة (منحنى) دار أبو خضر بطنجت ( تعثرت ) ، فنزل الرجال
يدفعون السيارة ، فكانت المفاجأة أن وجدوا الفتى صبحي متعلقا تحت باب الشاحنة
الخلفي ، جن جنون أبو معدي ، وقبض بتلابيب الفتى ، وقال له :
ـ ولك شو بتساوي هان يا
قرد العزا .
أجاب صبحي : قلت أجيء
معكم يمكن تحتاجوني .
فقال العم :
ـ ولك يا تيس ما في
رجال في الدار غيري وغيرك ، واحنا رايحين على حرب وضرب رصاص ، إذا أنا رحت بظل واحد يدير باله على الدار ،
يعني بدك نروح الاثنين .. انقلع .. ارجع
ورجع الفتى صبحي ،
ولكنه شارك بعد ذلك في كل فزعات أهل كفرمالك ، ومن أهمها فزعة القسطل بعد عشر سنين
يوم استشهاد القائد عبد القادر الحسيني ..
5 : الشاب الذي
تزوج بارودة
وكبر صبحي وصار الشاب
القوي المغامر الشجاع ، فصار مطمعا لبنات البلد ، ذات يوم وصله خبر أن قريبته
الأرملة محمـدية العدوي أسرت لبعض صويحباتها : إذا تزوجني صبحي سأشتري له بارودة ،
وحقق الشاب صبحي أمنية الأرملة ، وحقق معها أمنيتين إضافيتين : الأولى أنه سيرث
قريبته التي لا وارث لها ، والثانية أن قريبته تسكن في حوش محبوبته التي يسعى لرؤيتها
والوصال معها بأي ثمن ، فيكون بذلك قد اصطاد ثلاثة عصافير بحجر واحد .
ليلة الدخلة وبعد
السهرة والحناء والزفة وسف المناسف على حساب العروس ، تأخرت امرأة تدعى نجمة عند
العروس ، وجاء صبحي ، وتأخرت الست نجمة بالسهرة ، ثم استأذنت لتعود إلى بيتها ،
فقال صبحي :
ـ مش عيب تروحي بالليل
لحالك ، لازم أوصلك لباب داركم ، وترك صبحي عروسه بشنبرها وثياب عرسها ، وشكل
البارودة على كتفه ، وذهب يوصل نجمة ، وانقضى الليل ولم يعد ، في الصباح جاءت جارة تهنئ محمـدية العروس
بالصباحية ، فقالت لها العروس :
ـ روحي هني نجمة ، أنا
يا دار ما دخلك شر .
ومنذ تلك الليلة انشغل
صبحي عن عروسه بالبارودة حتى صار من قناصي كفرمالك المعدودين ، وبقيت صاحبة
البارودة زوجة بالاسم ، طلقها يوم تزوج محبوبته الأثيرة العفيفة ، وعندما سافر إلى
البرازيل هجر محبوبته الأثيرة وآثر عليها الطير الغريب .. فكان أول من سن فشل قصص
الغرام في كفرمالك ، فأغلب الزيجات في بلدنا التي كانت نتيجة حب جارف جرفتها
الأيام بالطلاق أو بتعدد الزيجات ، فصدق عليهم قول نزار قباني :
أتراها تحبني ميسونُ
*** أم توهمتَ والنساء ظنونُ
6 : لويح الدبكة الشاطر
..
كان صبحي فاكهة الأعراس
والسهرات ، فهو صاحب الفقرة المسرحية المنتظرة من الساهرين ، كان يقدم فقرة
تمثيلية ساخرة حيث يلبس لحافا ، ويصنع لنفسه بطنا كبيرة ، ويقلد بعض مخاتير البلد
في مشاهد يفرط عليها الناي من الضحك .
بالإضافة لموهبته في
التشخيص ، كان صبحي دبيكا نشطا يقود صف الدبكة بحركات رشيقة بهلوانية ، وذات سهرة
كان يدبك على حيطان علية البعيرات ،
وتجتمع النساء في حوش دار المهرور ، وأراد أن يري النساء والرجال مشهدا طريفا ،
وأراد قبل ذلك أن يلفت نظر محبوبته عفيفة التي تشارك في السهرة ، فصاح بصف الدبكة
موجها خطواتهم : ثلاثة وانزل . فدق برجله
ثلاث دقات ثم قفز عن ظهر الحيطان نازلا بين النساء الساهرات في الحوش . والمسافة
كبيرة ، ولكن الشاب قفزها دون أن يحدث له أي ضرر ، وأتم الدبكة بين النساء ، وهو
ينظر إلى محبوبته ، وكأنه يقول لها .. من أجل عينيك لرمي حالي من العالي .
وأول مواجهة للفتى المغامر صبحي مع العساكر الإنجليز كانت في أواسط الثلاثينيات
، حيث حضر بعض العساكر الإنجليز سهرة في الحارة عند دار غنايم ، ووقفوا لمشاهدة
حلقة الدبكة التي كان يقودها صبحي ، يضرب الأرض بخفة الطائر وبحركة سريعة قام صبحي
بخطف برنيطة أحد الجنود ، وانطلق كالسهم نازلا نحو لوز واد العَبّاد ، حاول الجنود
اللحاق به دون جدوى ، فقد عرف عن صبحي سرعته الفائقة في الجري . هذه المزحة
الثقيلة جعلت الكابتن فورد الضابط الإنجليزي في المنطقة يتربص بصبحي الدوائر.
ذات مرة صادف الكابتن فورد الشاب صبحي في الزقاق قريبا من بيته ، كان صبحي
قد عنكر عقاله ، وأمام بعض نساء الحي ، نزغ الكابتن عقال صبحي ورماه أرضا ، أُحرج
الشاب صبحي وكتمها في نفسه ، وذات يوم جاء الكابتن فورد يرافقه أحد أعيان
المنطقة من دار الضامن لزيارة للقرية ، وجلسوا في علية البعيرات ، هنا
تعمد صبحي أن يعنكر عقاله ، ويتمتختر أمام الكابتن ، طبعا فورد لا يستطيع أن يفعل
شيئا بسبب وجدود الوجهاء ، فقال لمرافقه :
ـ شوف العربي ، يتباهى بعقاله ؟
قال المرافق : لكي تعرف أن شهامة العرب في رؤوسهم وشهامة
الانجليز في .... ( قفاهم ) .
7 : مرجوحة التعذيب .. ومقص صبحي العجيب ..!!
ومرت سنون ، وقامت الثورة والإضراب الكبير ، وتعرضت
كفرمالك لعدة تطويقات بحثا عن الثوار والأسلحة، ويذكر أهالي كفرمالك من بينها التطويقة الكبيرة
عام 1938 ، كانت هذه الحملة من أشد الحملات رعبا وتنكيلا بالسكان ، وسماها أهل
كفرمالك الكبيرة لأن الإنجليز جمعوا رجال كفرمالك في الحارة الفوقا عند دار عياد
اليوم ، وضربوا حول المعتقلين سياجا ، ومنعوا عنهم الزاد والماء حاسري الرؤوس في
الحر الشديد لأكثر من ثلاثة أيام ، وخلال تلك التطويقة استشهد أحمد عبد الحي عندما
حاول أن ينقذ نفسه من الموت عطشا ، وادعى أن لديه بندقية خبأها عند نبع عين سامية
، وفعلا أخذه الجنود للعين ، وعندما شاهد الماء هرب محاولا الوصول للماء ليشري ،
فأطلقوا عليه النار ويقط شهيدا .
في هذه التطويقة كان صبحي عائدا إلى البلد من واد
سموم يقود حميرا محملة بالكرسنة ، ألقى الجنود الإنجليز عليه القبض أمام بيته ،
وأخذوه إلى الطوق لينضم لباقي المحتجزين .
أقام الضباط
الإنجليز غرفة تحقيق وتعذيب في علية دار المدني ، وجاء دور صبحي ، ربطوا يديه في
حبل علقوه بكِلّاب في سقف الغرفة ، ورفعوه
عن الأرض ، وصاروا يضربونه بالعصي والكرابيج وهو يتأرجح مشبوحا في الهواء ، زادوا
عليه الضرب ، ولما فاذ الحر على المسطاح ما
كان من صبحي إلا أن اندفع بجسمه المعلق ،
وأطبق بكلتا رجليه على رقبة أحد الضباط ، وراح يخنقه بشدة ، ولما فشل الجنود في
تخليص الضابط من مقص صبحي القوي قاموا
بقطع الحبل ، فسقط صبحي على الأرض ،
وانهالوا عليه ضربا مبرحا حتى غاب عن الوعي .
عندما أفاق صبحي
من غيبوبته وجد نفسه محبوسا في بئر قريب
من المقاطعة في رام الله ، وبدون أسنان .. ولكن صبحي قرر الثأر لأسنانه ولو طال
الزمان .
8 : تفجير فندق الملك داود .. وبطولة صبحي ..
في بداية الأربعينيات انضم صبحي إلى الحرس الإضافي
الانجليزي ضمن حملة التجنيد التي قادها فايز بك الإدريسي لاستيعاب الثوار ، وكانت
خطة الإدريسي الخبيثة تقوم على مرحلتين : الأولى هي العفو عن الثوار أصحاب الماضي
المشاغب ، والثانية توفير وظيفة للتائيين بإلحاقهم بدورة تدريب عسكرية في بيت لحم
، ويتم بعدها تعيين الناجحين في سلك البوليس الإضافي ، مقابل راتب شهري قدره خمسة
جنيهات فلسطينية ، الجنيه الواحد في ذلك
الوقت كان يعادل ثلاث عثمليات ، أي كان المبلغ خياليا في تلك الأيام .
كان صبحي من فرقة الحراسة التي تحرس فندق الملك داود
في القدس ، الذي استخدم الإنجليز الجناح الجنوبي منه مقرا للإدارة العسكرية العامة
البريطانية ، ونفذت عصابة الأرغون الصهيونية عملية تفجير ضخمة في الفندق بزعامة
مناحيم بيغن عام 1946 ، قتل خلال تلك العملية 91 شخصا وجرح حوالي 45 آخرين .
كان صبحي في
دورية الحراسة على سطح الفندق ، وبعد الانفجار دارت اشتباكات حول الفندق ، هنا
استغل صبحي موقعه ، وفي غمرة الفوضى التي قامت راح يصطاد من وقعت عليه عينه من الإنجليز
واليهود المتواجدين في المكان ، وأسقط قنبلة على تجمع منهم تحت الفندق ، فأوقع عدد لا بأس به قتلى وجرحى ، وبقيت تلك
العملية البطولية التي قام بها صبحي سرا دفينا لم يكشف عنه إلا بعد وفاة صبحي ،
وظلت من مآثر الرجل التي لا تنسى ..
9 : كيف ودع صبحي الكابتن فورت ..
ذات يوم حضر الكابتن فورت لمضافة القرية ، طويل
وأشقر حاقد ملعون والدين ، ومعه فريق من
الشرطة الخيالة ، مصطبة المضافة كانت محفرة من كثرة الحركة عليها ، وراح البعض
يحضر عليق الخيل ، وانشغل آخرون بتجهيز طعام الضيوف ، ودارت دلة القهوة على
الحاضرين .
كان ذلك في
عام 1946 أي قبل رحيل القوات البريطانية عن المنطقة بأقل من عامين ، وأثناء تقديم
القهوة للضيوف ، تفحص الكابتن فورت الموجودين ، وهو جالس على فراشه تحت الشبابيك
الغربية ، وفارد رجليه في وجوه الآخرين، فوجده معنكر عفاله فخرا وتباهيا ، وكان من
أنشط شباب القرية سرعة وخفة ، وكان في كثير من الحالات يباري الخيل الجامحة في
الميدان ركضا على الأقدام ، ولو كان الضابط يعرف ما سيجري لما فعل ما فعل ، حيث
قال للشاب : إنت .. إنت تعال هون ، وعند حضوره أمام الضابط أشر له على رجليه بأن
يخلع نعليه بيديه ، وامتقع وجه الشاب من ذلك الموقف المهين، وراح يلتفت يمنة ويسرة
حيث كان سريع البديهة ، وبسرعة فكر بما سيفعل ، وألح عليه الضابط بأن يفعل ما طلب
منه ، وما كان منه إلا أن أمسك برجل الضابط بكل قوة ، وشحطه على الأرض من غرب
المضافة إلى شرقها ، وأمام صراخ الكابتن ومسياته وتهديداته ، أفلت صبحي يسطار
الضابط بعدما شحطه على الأرض ، وقفز من الشبابيك الشرقية ، على ارتفاع طابقين ،
وهرب بخفة الخيل وسرعة البرق، ولم يكن بوسع الفرسان أن يفعلوا مثل ما فعل، بل
خرجوا من باب المضافة إلى الحيطان المجاورة حتى وصلوا إلى خيولهم ، وحاولوا اللحاق
به ولكنهم لم يفلحوا .أما بالنسبة للضابط المتعجرف والذي لم يتوقع مثل تلك الفعلة
حيث تهشم ظهره من حفر الأرضية وقوة السحب ، ولم ينتظر الجنود غداءهم بل غادروا على
وجه السرعة لعلاج الجريح ، وقيل لي بأن الضابط مكث قرابة الأسبوع لا يغادر المركز
حتى تعافى ، وحاول فيما بعد العثور على الفاعل ولكنهم انسحبوا من فلسطين قبل أن
يقبضوا عليه .. .
10: الاغتراب .. قنطار خشب على درهم حلاوة
في بداية الخمسينيات سافر صبحي إلى جزيرة المارتنيك
، وهي جزيرة صغيرة في البحر الكاريبي تتبع
لفرنسا ، وبدأت هجرة بعض أهالي كفرمالك إليها في بداية الثلاثينات ، ومن طرائف
ملاحظات المعلمين على دفتر الحضور والغياب في مدرسة كفرمالك الأميرية عام 1933 عن
طالبين في الصف الثالث يحملان اسم محمود ، الأول محمود عمرة ترك المدرسة لكي يلتحق
بوالده في فرنسا ، وتحته مباشرة محمود صالح ترك المدرسة لكي يلتحق بوالده في
الحراث .
سافر صبحي لكي يلتحق بوالده الذي سبقه بالاغتراب ، ولكن
شخصية صبحي المغامرة لم تتفق مع شخصية والده وعمه المحافظة ، فأراد أن يغير
تجارتهم وطريقة عملهم ، واكتشف أن الدبكة عنوان الرجولة اسمها في المارتنيك الرقص
، والرقص عندهم غير الدبكة عندنا ، فهو عندنا رمز الرجولة جماعي مع الرجال ،
وعندهم رمز الفحولة زوجي مع واحدة من النساء ، فلم يطل وفاق الأب المحافظ والابن
المغامر ، فقام الوالد بسحب كفالته لابنه الذي لا يحمل الجنسية الفرنسية ، واضطر
صبحي للسفر عند أقارب له في البرازيل .
في عام 1964 عنكر صبحي قبعته في المهجر عندما جاءته
أخبار سارة بأن ولده البكر ماهر حصل على المرتبة الأولى في التوجيهي على مستوى
المملكة ، ولكن غصة جاءته من الحكومة الأردنية عندما كافأت ابنه ببعثة لدراسة
الزراعة ، هنا قرر صبحي أن يرسل ابنه المتفوق لدراسة الطب في جامعة القاهرة على
نفقته الشخصية .
وبعد سنة من حرب 1967 سافرت عائلة صبحي لتنضم له في
البرازيل ، واكتشفت زوجته أن زوجها العاشق قد وقع في قفص طيور غريبة ، فهجر قفصها
الذهبي ، وعاش مع الطير الغريب ، مثله في ذلك مثل أغلب المهاجرين من أهل فلسطين
.
11
: من طرائف صبحي في البرازيل ..
أقام
صبحي في البرازيل في مدينة كورومبا في جنوب البرازيل على حدود الأرغواي ، وعمل في
تجارة الملابس ، وكان من عادة تجار تلك المدينة أن يسافروا بالقطار إلى سان باولو
عاصمة البرازيل التجارية لشراء البضائع .
ذات
مرة سافر صبحي إلى سان باولو للتبضع ، وبعد أن أتم مشترياته استقل القطار عائدا
إلى مدينته ، توقف القطار عند إحدى المحطات للاستراحة ، حيث يقضي الركاب بعض
حاجاتهم ويتناولون وجبة خفيفة ، هناك تعرف صبحي العاشق المغامر على فتاتين
برازيليتين تواجدتا في المكان ، كان تعارفا عابرا من باب الشقاوة التي اشتهر بها
صبحي ، ثم أطلق القطار صافرته وركب صبحي مواصلا رحلته .
أخرج
صبحي يده من الشباك يلوح بها مودعا الصبيتين ، وحدث أن سقطت ساعته من يده ، فما
كان من صبحي إلا أن قفز من شباك القطار المنطلق إلى الأرض ، وقع على مشهد من
الصبيتين دون أن يتعثر أو يقع ، اتجه حيث تقف الصبيتين وقال :
ـ
أهذا يرضيكما .. كدت أموت كي أقول لكما مع السلامة ، والقطار تركني؟
أدهش
الموقف الصبيتين ، فقالت إحداهما :
ـ
والدي لديه فازندا ( مزرعة ) قريبة ، إذا كنت تجيد ركوب الخيل ، اركب هذا الحصان
واتبعنا نعرفك على والدي ويحل لك المشكلة .
وانطلق
صبحي على صهوة الحصان وراء الصبيتين اللتين ركبتا على حصان واحد ، ثم انطلق كالريح
يسابق صاحبتيه ، وصل إلى المزرعة ، وقصت الصبيتان على والديهما القصة ، أعجب الأب
بجرأة صبحي ، وبعد تقديم واجب الضيافة قال له :
ـ
اسمع أنا عندي طائرة تيكو تيكو .. سأطلب من الطيار أن يوصلك لسان باولو ومن هناك
تركب القطار وتعود إلى بلدك .
وركب
صبحي الطائرة ذات المحرك الواحد لأول مرة في حياته ، وترك تلك المغامرة الشقية قصة
شيقة يرددها أهل كفرمالك في المهجر من باب عجائب وطرائف صبحي زعيتر ..
12
: صبحي .. يتطوع لعملية فدائية
في
صيف عام 1968 وبعد معركة الكرامة بشهور ، قام صبحي بزيارة سرية مفاجئة إلى الأردن
، لم يخبر أهله في البرازيل ولا أصدقائه عن سفره ، ولم يره أحد من أهالي كفرمالك الذين كانت تغص
بهم العاصمة الأردنية ، وكان غايته واضحة محددة ، قصد مكتب المنظمة ، وراح يبحث عن صديق قديم من كفرمالك هو مصطفى
حمد أحد قادة حركة فتح في الأردن ، كان مصطفى قد تزوج حديثا ، وانتقل من العقبة
للإقامة في عمان ، في ذلك الوقت كان مصطفى يعمل في مكتب أبي عمار في العاصمة ،
توجه صبحي للمكتب وسأل عن مصطفى حمد ،
وقيل له ليس عندنا أحد اسمه مصطفى ، هناك شخص واحد من كفرمالك اسمه ربحي
موسى ، طلب صبحي مقابلته ، فأخذوه إلى
مكتب يجلس به مصطفى حمد ، تعانق الرجلان بحرارة ، وأصر مصطفى حمد الذي يحمل اسما
جديدا على دعوة صبحي للغداء .
قال
صبحي : اسمع يا قرابة ، أنا ما جيت من البرازيل لعمان للعزايم والطبايخ .. أنا جيت
أطوع في الثورة عشان أدخل عملية فدائية ..
قال
مصطفى : يا أبو ماهر .. هذه الشغلة بدها شباب .
قال
صبحي : وأنا شيخ الشباب .. أم نسيت أني أحسن قناص طلع من كفرمالك
وأمام
إصرار صبحي وحماسته ، اصطحب مصطفى بلدياته إلى قاعدة للفدائيين في الأغوار ، وأراد
مصطفى أن يثني صبحي عن نيته ، فعرضه لاختبار صعب :
ـ
اسمع يا صبحي إذا نجحت في هذا الاختبار ، يمكن نسمح لك المشاركة في عملية .
وطلب
مصطفى من المجموعة أن تصعد جبلا في المنطقة ، ومعهم صبحي ، وبدأ السباق ، وانطلق
الشباب نحو قمة الجبل ، وكانت المفاجأة أن صبحي سبقهم جميعا إلى قمة الجبل .
عاد
صبحي فرحا بأنه ما زال يحتفظ بقوته ولياقته ، أمسك بيد مصطفى وقال له :
ـ
اللي أوله شرط آخره رضا ..
وعاد
صيحي بصحبة مصطفى إلى عمان ، وقضى فيها
بضعة أيام ، ومصطفى يعده خيرا ، ولكن الأمر يحتاج إلى ترتيب ، ولما طال انتظار
صبحي ، فاتحه مصطفى وصارحه :
ـ
اسمع يا أبو ماهر ، كل وقت له أهله ، واحنا مش ملحقين نسجل متطوعين بعد معركة
الكرامة ، كلهم شباب من جيل ابنك ماهر ، الكبار مثلك دورهم في الدعم والتخطيط ، شو
رأيك لو أرسلنا ابنك الدكتور ماهر مكانك.
أجاب
صبحي : ماهر ما زال يدرس وبعد سنتين يتخرج ..
قال
مصطفى : ونحن بحاجة لدكاترة يسعفوا الجرحى .
وعاد
صبحي إلى البرازيل ليكمل الانفاق على ابنه الذي يدرس الطب في القاهرة .. ولكنه لم
ينس الوعد
12 : على ماذا حلف صبحي بالطلاق ... ؟
ومضت
سنتان ، وتخرج الطالب ماهر صبحي الحائز على المرتبة الأولى في الثانوية العامة على
مستوى المملكة ، وحصل على المرتبة الأولى في جامعة القصر العيني في القاهرة ،
وأعلن عن موعد حفلة التخريج ، لم ينس صبحي وعده لصديقه مصطفى ، فأرسل إليه يدعوه
للمشاركة في حفل تخريج ابنه ماهر من الجامعة ، والتقى الاثنان في القاهرة ، وجلسا
مجاورين في قاعة الاحتفال ، فرحا بالمرتبة التي حصل عليها ماهر ، واحتفلا بها بكل
نشوة وفخر ، ثم نزل ماهر لكي يسلم على والده وصديقه ، فما كان من صبحي إلا أن أعلن
صارما :
ـ
اسمع يا دكتور ، انتظرت هذا اليوم طوال سنتين ، الآن عليك أن تخدم وطنك ، وتلتحق
بقواعد الثورة في لبنان .
قال
ماهر : يابا ، أنا لازم أسافر وأتخصص ..
فقال
صبحي غاضبا : عليّ الطلاق من إمك إلا تروح وتنظم للثورة .
وهذا
ما كان ، سافر ماهر إلى لبنان والتحق بالثورة طبيبا مسعفا ، كان خلال عمله يتنقل
بين قواعد الفدائيين في الدامور والجنوب ، وعرف هناك على نطاق واسع ، وقدم خدمات
جليلة للمقاتلين .
في
10 نيسان من عام 1973 وبينما كان الدكتور ماهر يخدم في مستشفى القدس جاءت سيارة
إسعاف تابعة للهلال الأحمر الفلسطيني ، وكانت تحمل جثة الشهيد كمال عدوان الذي قتل
في عملية فردان مع رفيقيه كمال ناصر وأبو يوسف النجار .
كانت
القوة الإسرائيلية المهاجمة قد بالغت في إطلاق النار على وجه كمال عدوان بصورة
مريعة ، فغابت معالم الوجه ، لما رأى الدكتور ماهر منظر وجه الشهيد أصيب بحالة من
الخوف ، فإذا كان اليهود قادرين على الوصول لهؤلاء القادة ، فهم قادرون على الوصول
إليه وإلى غيره .
وفي
لحظة ضعف قرر الدكتور ماهر مغادرة لبنان وقواعد المقاومة ، وسافر إلى الولايات
المتحدة ، وتخصص في جراحة الأوعية الدموية ، وأصبح فيما بعد من أشهر عشرين طبيب في
تخصص جراحة الأوعية الدموية على مستوى العالم .
14
: نهاية العاشق المغامر ..
في
صيف عام 1992 عاد صبحي إلى مسقط رأسه في كفرمالك ، وعادت معه زوجته وأولاده ،
واجتمع شمل العائلة بعد فراق طويل ، ورحلة عمر مليئة بالانجازات والاحباطات ،
ومسيرة الحياة كالدائرة تبدأ حيث تنتهي ، وبين البداية والنهاية مغامرات وتجارب ،
أفراح وأحزان ، فراق ولقاء على محيط الدائرة .
كثير
ممن عرفوا صبحي في الغربة كان يرددون أمنية صبحي الغريبة :
ـ
يا رب لا تميتني إلا في بلدي وأنا أدبك ..
وحدث
أن جاء صبحي للمشاركة في سهرة قريب له من العائلة هو عبد الله الكحلة ، وكانت
السهرة أمام بيت العريس في الحارة الفوقا ، سهرة تقليدية بدون مغني ولا دي جي ،
وبدأت شبابة أبو سفيان تستحث الشباب
للاصطفاف في حلقة الدبكة ..
أول
ما نبدي بسورة تبارك *** عرسك عبدالله يا ريتو مبارك
ودارت حلقة الدبكة ، وقام أبو الصادق وأمسك بيد
صديقه القديم ، ودعاه للانضمام للدبكة ، لبى صبحي الدعوة دون اعتراض وانضم للشباب ،
دارت الحلقة دورة والثانية ، ثم سكتت الشبابة ، وساد في المكان هرج ، وتجمع الناس
حول صبحي الذي سقط على الأرض ، أسرع ابنه الدكتور ماهر يتفحص والده الملقى بين
الجمع ، وهمس بإذن أخيه الدكتور عيسى بالانجليزية :
ـ
أبوك أعطاك عمره ..
وحُمل
صبحي إلى سيارة أسرعت للمستشفى ، وجاءت سكرة الموت بالحق ، وانتهت حياة العاشق
المغامر كما تمنى ، ورب امرئ حتفه كما تمناه .
رحم
الله أمواتنا وأمواتكم ، وأحسن الله ختامنا وختامكم ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق