الخميس، 27 نوفمبر 2014

قصة حسن أبو قرطوم .. وبارود.ة إم إصبع

.


كان حسن أبو قرطوم في ريعان شبابه في أواخر الحكم التركي للبلاد ، شاب ذو همة ونخوة ، ولديه بندقية عثمانية ذات طلقة واحدة ، كانت تسمى بارودة إم اصبع ، لذلك عهد إليه أهالي كفرمالك بحراسة العجال ( قطيع الأبقار والحمير والبغال ) في منطقة الدالية القريبة من قرية المغير ، وتلك عادة أهل كفرمالك في الرعي بعد خروج العجال من منطقة واد اللصم وواد بقر ، لأن الدالية من مشارف الغور ينبت العشب فيها مبكرا في أول الربيع .
ذات مساء جاءت مجموعة من الفراري أو الأشقياء ( هكذا كان يسميهم الإنجليز )  بزعامة رجل فراري مشهور بسطوته وقلة دينه اسمه أبو داود من بيت دجن ، حلوا على الناطور حسن ضيوفا ، فأحسن ضيافتهم ، حسن وذبح لهم سخلة وأطعمهم ، والمثل يقول إذا أكرمت الكريم ملكته ، وإذا أكرمت اللئيم تمردا ، وكان أبو داود وجماعته من الأشيقاء اللئام ، فعادوا في الليلة التالية ، وقد طمعوا في الشاب حسن لما عرفوا أنه يحرس وحيدا  .
عاد أبو داود في مساء اليوم التالي ، ونادى على حسن باحتقار وعنحهية :
ـ اليوم سخلة ما بتكفينا ، بدنا تذبح إلنا مرياع الغنم ، وإنت زلمة طيب . 
هنا أدرك حسن أنه أمام مجموعة من اللصوص اللئام ، فحذرهم من الاقتراب من الحلال ، وساق عليهم وجه الله وجاه النبي أن يكفوه شرهم ، ولكن الشقي أبو داود لم يأبه للتحذير ، فتقدم نحو مرقد حسن نافخا صدره مثل ديك الحبش متحديا له غير آبه بوعيده ، فما كان من حسن عندما رأى الرجل يقترب منه ولا مناص إلا أن " أعطاه إياها " .. رصاصة صائبة من بارودة إم إصبع  ، فأرداه قتيلا ، فصرخ المغدور صرخة جلجلت الدالية ، هرب  أصحاب أبو داود لما عرفوا أن زعيمهم قتل ، وهرب الشب حسن باتجاه البلد يطلب المدد .
يذكر أهل كفرمالك هنا موقف شابة اسمها عسكرية كانت قد تزوجت منذ شهور من رجل من المغير ومعزبة في الدالية ، ولما رأت الهرج والمرج ، وعرفت أن هناك الكثيرين سوف يستغلون فورة الدم ويسرقون حلال أهل كفرمالك ، كما تعود الناس في مثل هذه الحالة ، فما اكان منها غير أن ساقت العجال والحلال تحت جنح الليل لتحميه من السرقة تحت ذريعة فورة الدم ، وفعلا وصلت بالقطيع إلى منطقة الوسعات ، وبلغ أهالي كفرمالك الخبر ، وهناك استلم كل صاحب حلال حلاله ، فنجا الحلال ، وحفظ الأهالي للصبية عسكرية فضلها في إنقاذ العجال والحلال . 
وللحد من الثأر بين أهالي كفرمالك وأهل بيت دجن ، سجنت الحكومة التركية حسن أبو قرطوم .
أما الصبية عسكرية فكانت مكافأتها عجيبة ، فقد توفي زوجها المرغاوي بعد سنتين أو أكثر ، بعد أن رزق منها بنت أسمتها وزنية ، وبعد وفاة زوجها عادت إلى كفرمالك وتزوجت من قرابتها أحمد أبو العصرية ، ورزقت منه بنت اسمها فاطمة أم صلاح العصرية ، ولانهاء خلاف الثأر مع أهالي بيت دجن ، قام أبو هاني أحمد أبو شنيور بطلب بنت من بيت دجن اسمها عدلة وزوجها لأحمد أبو العصرية ، فأخضر لها ضرة ، والضرة مرة ولو كانت جرّة .
سجن حسن ابو قرطوم في سجن للاتراك في نور شمس قرب طولكرم ، ومن هناك قررت الحكومة نقل حسن وبعض المساجين إلى اسطنبول ، وفعلا حملوا حسن في القطار في فركون بجوار غرفة الفحم وعلى الباب حارس تركي ، وكان مع حسن سجين من نابلس اسمه مصلح فياض ، وسافر بهم القطار نحو الشمال باتجاه سوريا ، مقيدا اليدين .
هنا قرر حسن وزميله فياض الهروب من القطار ، وكانت الخطة عند وصول منطقة سهل من الأرض أن يهاجم حسن الحارس ويقفزان من القطار ، واتفقا إذا وقعا وبينهما مسافة أن يستدلا على بعض عن طريق الصفير ، فإذا سقط الواحد من القطار يظل يسير ويصفر ، حتى يسمع صوت الثاني  .
وفعلا لما وصل القطار لأرض سهلية شمال سوريا هجم حسن على الحارس ، وألقاه على أرض القطار ، واستغل فياض الوضع وقفز من القطار ، وبعد عراك مع الحارس التركي دام شرب سيجارة ، نجح حسن بالقفز من القطار ، ولما أفاق على نفسه من وجع السقطة ، ومشى باتجاه الجنوب وهو يصفر يبحث عن زميله فياض ، وظل يصفر ويمشي بعكس اتجاه سير القطار ، ثم صفر وسمع صفرة ، وأخذ  يقترب من مصدر التصفير حتى وجد صاحبه فياض ، وكان جالسا يتألم وقد أصيب برجله .. 
جرجر حسن صديقه المصاب برجله ، ثم لقيا بعض الناس من سوريا ، وساعدوهم في فك القيد ، وفي علاج فياض .
ومن أين كان ينفق الصديقان على نفسيهما خلال هذه الفترة ؟
عندما قرر الأهالي والمختار أبو داود تسليم حسن للحكومة التركية زودوه بتسع ليرات عثلمي ، فلا أحد يضمن الظروف ، والطريقة الوحيدة للاحتفاظ بالليرات الذهب في تلك الظروف أن يبلعها ، وفعلا بلع حسن الليرات ، وصار كلما أخرجها مع قضاء الحاجة يغسلها وينظفهما وينفق منها ما يحتاج ، ويبلع ما تبقى  مرة أخرى ، وصدق عليه المثل : مثل اللي بشخ ذهب .
وظل حسن ينفق على نفسه وصاحبه ويسيران باتجاه الجنوب باتجاه الديار ، ومما يروي عن حسن أنه لما وصل كفرمالك خلسة عن طريق العوينة ثم راس المطل ، كانت القوات العثمانية بعدد كبير تتجمع في منطة الروس ( العاصور ) ، وهذا يشير إلى أواخر الحرب العالمية الأولى .

وعاش حسن أبو قرطوم بعدها وتوفي ـ رحمه الله ـ  عام 1981 .  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق