.
كان حسن أبو
قرطوم في ريعان شبابه في أواخر الحكم التركي للبلاد ، شاب ذو همة ونخوة ، ولديه
بندقية عثمانية ذات طلقة واحدة ، كانت تسمى بارودة إم اصبع ، لذلك عهد إليه أهالي
كفرمالك بحراسة العجال ( قطيع الأبقار والحمير والبغال ) في منطقة الدالية القريبة
من قرية المغير ، وتلك عادة أهل كفرمالك في الرعي بعد خروج العجال من منطقة واد
اللصم وواد بقر ، لأن الدالية من مشارف الغور ينبت العشب فيها مبكرا في أول الربيع
.
ذات مساء
جاءت مجموعة من الفراري أو الأشقياء ( هكذا كان يسميهم الإنجليز ) بزعامة رجل فراري مشهور بسطوته وقلة دينه اسمه
أبو داود من بيت دجن ، حلوا على الناطور حسن ضيوفا ، فأحسن ضيافتهم ، حسن وذبح لهم
سخلة وأطعمهم ، والمثل يقول إذا أكرمت الكريم ملكته ، وإذا أكرمت اللئيم تمردا ،
وكان أبو داود وجماعته من الأشيقاء اللئام ، فعادوا في الليلة التالية ، وقد طمعوا
في الشاب حسن لما عرفوا أنه يحرس وحيدا .
عاد أبو
داود في مساء اليوم التالي ، ونادى على حسن باحتقار وعنحهية :
ـ اليوم
سخلة ما بتكفينا ، بدنا تذبح إلنا مرياع الغنم ، وإنت زلمة طيب .
هنا أدرك
حسن أنه أمام مجموعة من اللصوص اللئام ، فحذرهم من الاقتراب من الحلال ، وساق
عليهم وجه الله وجاه النبي أن يكفوه شرهم ، ولكن الشقي أبو داود لم يأبه للتحذير ،
فتقدم نحو مرقد حسن نافخا صدره مثل ديك الحبش متحديا له غير آبه بوعيده ، فما كان
من حسن عندما رأى الرجل يقترب منه ولا مناص إلا أن " أعطاه إياها " .. رصاصة
صائبة من بارودة إم إصبع ، فأرداه قتيلا ،
فصرخ المغدور صرخة جلجلت الدالية ، هرب
أصحاب أبو داود لما عرفوا أن زعيمهم قتل ، وهرب الشب حسن باتجاه البلد يطلب
المدد .
يذكر أهل
كفرمالك هنا موقف شابة اسمها عسكرية كانت قد تزوجت منذ شهور من رجل من المغير
ومعزبة في الدالية ، ولما رأت الهرج والمرج ، وعرفت أن هناك الكثيرين سوف يستغلون
فورة الدم ويسرقون حلال أهل كفرمالك ، كما تعود الناس في مثل هذه الحالة ، فما اكان
منها غير أن ساقت العجال والحلال تحت جنح الليل لتحميه من السرقة تحت ذريعة فورة
الدم ، وفعلا وصلت بالقطيع إلى منطقة الوسعات ، وبلغ أهالي كفرمالك الخبر ، وهناك
استلم كل صاحب حلال حلاله ، فنجا الحلال ، وحفظ الأهالي للصبية عسكرية فضلها في
إنقاذ العجال والحلال .
وللحد من
الثأر بين أهالي كفرمالك وأهل بيت دجن ، سجنت الحكومة التركية حسن أبو قرطوم .
أما الصبية
عسكرية فكانت مكافأتها عجيبة ، فقد توفي زوجها المرغاوي بعد سنتين أو أكثر ، بعد
أن رزق منها بنت أسمتها وزنية ، وبعد وفاة زوجها عادت إلى كفرمالك وتزوجت من قرابتها
أحمد أبو العصرية ، ورزقت منه بنت اسمها فاطمة أم صلاح العصرية ، ولانهاء خلاف
الثأر مع أهالي بيت دجن ، قام أبو هاني أحمد أبو شنيور بطلب بنت من بيت دجن اسمها عدلة
وزوجها لأحمد أبو العصرية ، فأخضر لها ضرة ، والضرة مرة ولو كانت جرّة .
سجن حسن ابو
قرطوم في سجن للاتراك في نور شمس قرب طولكرم ، ومن هناك قررت الحكومة نقل حسن وبعض
المساجين إلى اسطنبول ، وفعلا حملوا حسن في القطار في فركون بجوار غرفة الفحم وعلى
الباب حارس تركي ، وكان مع حسن سجين من نابلس اسمه مصلح فياض ، وسافر بهم القطار
نحو الشمال باتجاه سوريا ، مقيدا اليدين .
هنا قرر حسن
وزميله فياض الهروب من القطار ، وكانت الخطة عند وصول منطقة سهل من الأرض أن يهاجم
حسن الحارس ويقفزان من القطار ، واتفقا إذا وقعا وبينهما مسافة أن يستدلا على بعض
عن طريق الصفير ، فإذا سقط الواحد من القطار يظل يسير ويصفر ، حتى يسمع صوت الثاني .
وفعلا لما وصل
القطار لأرض سهلية شمال سوريا هجم حسن على الحارس ، وألقاه على أرض القطار ،
واستغل فياض الوضع وقفز من القطار ، وبعد عراك مع الحارس التركي دام شرب سيجارة ،
نجح حسن بالقفز من القطار ، ولما أفاق على نفسه من وجع السقطة ، ومشى باتجاه
الجنوب وهو يصفر يبحث عن زميله فياض ، وظل يصفر ويمشي بعكس اتجاه سير القطار ، ثم
صفر وسمع صفرة ، وأخذ يقترب من مصدر
التصفير حتى وجد صاحبه فياض ، وكان جالسا يتألم وقد أصيب برجله ..
جرجر حسن
صديقه المصاب برجله ، ثم لقيا بعض الناس من سوريا ، وساعدوهم في فك القيد ، وفي
علاج فياض .
ومن أين كان
ينفق الصديقان على نفسيهما خلال هذه الفترة ؟
عندما قرر
الأهالي والمختار أبو داود تسليم حسن للحكومة التركية زودوه بتسع ليرات عثلمي ،
فلا أحد يضمن الظروف ، والطريقة الوحيدة للاحتفاظ بالليرات الذهب في تلك الظروف أن
يبلعها ، وفعلا بلع حسن الليرات ، وصار كلما أخرجها مع قضاء الحاجة يغسلها
وينظفهما وينفق منها ما يحتاج ، ويبلع ما تبقى
مرة أخرى ، وصدق عليه المثل : مثل اللي بشخ ذهب .
وظل حسن
ينفق على نفسه وصاحبه ويسيران باتجاه الجنوب باتجاه الديار ، ومما يروي عن حسن أنه
لما وصل كفرمالك خلسة عن طريق العوينة ثم راس المطل ، كانت القوات العثمانية بعدد
كبير تتجمع في منطة الروس ( العاصور ) ، وهذا يشير إلى أواخر الحرب العالمية
الأولى .
وعاش حسن
أبو قرطوم بعدها وتوفي ـ رحمه الله ـ عام
1981 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق